مقالات مختارة

ترامب وقطر: تأزيم الملفات الخارجية لن يفكك الحصار الداخلي د.منذر سليمان

 

تخبط اميركي

         دقائق اعتقدها البعض كافية لسبر اغوار “الموقف الاميركي” المرجو والمعلن، ليسفر عن ضبابية جديدة في التوجهات الاميركية ازاء الأزمة “المفتعلة” داخل دول الخليج. أزمة قصدت الرياض ارغام ما تعتبره ملحقاتها الجغرافية للتسليم بالسير خلف قيادة “المملكة السعودية،” بمباركة من الرئيس الاميركي، بحجة مواجهة ايران.

       السؤال المركزي الثابت على كل لسان يتمحور حول ماهية حقيقة الموقف الاميركي، ان وجد، وتعبيراته وادواته وآفاقه وتطبيقاته. اما اسباب الأزمة الحقيقية فهي ابعد ما تكون على رأس سلم اولويات الساسة والقادة الاميركيين، نظرا لأن الاطراف كافة لا تشذ عن خدمة السياسات الاميركية.

       لن يجازف عاقل بالجزم في هذه المسألة في ظل سمة التخبط الطاغية على السياسات الاميركية، داخليا وخارجيا، بالنظر الى الديناميكيات التي تشهدها الساحة الاميركية والصراع المفتوح بين مراكز قوى متعددة دفعت المؤسسات الاعلامية التقليدية الإقرار بوجود “سلطة عميقة” خفية تتحكم بمفاصل الدولة.

       انفرجت اسارير الكثيرين داخل وخارج المؤسسة الحاكمة لما ينوي الرئيس ترامب إعلانه، الجمعة 9 حزيران، عن تحديد توجهاته من الأزمة الخليجية خلال مؤتمر صحفي يعقده مع ضيف الزائر رئيس رومانيا، كلاوس يوهانيس.

راهن الكثيرون على ان الاعلان المرتقب سيأتي “ترجمة للسياسة الاميركية الراهنة “لاعادة تصويب البوصلة مع حلفاء اميركا من دول الخليج العربي؛” الذين يربطهم “قاسم مشترك بين امرائه الشباب في التنافس على اكتساب الرضى الاميركي،” وفق توصيف مركز دراسات وزارة الدفاع الفرنسية.

       وسبق تصريح البيت الابيض اعلان وزارة الخارجية عن تلاوة موقف يدلي به وزير الخارجية ريكس تيلرسون؛ الذي تأخر 90 دقيقة عن الموعد المحدد، ولخصه في ظرف 90 ثانية برسالة مقتضبة حملت مواقف محددة بلهجة توافقية للتصالح بين الاطراف الخليجية، وعرض وساطة اميركية للقيام بذلك. تخلل الموقف اشارة قاسية لقطر “لتاريخها بدعم مجموعات متنوعة” تتراوح بين ممارسة النشاط السياسي وبين ممارسة العنف،” ومناشدته السعودية بقبول وساطة امير الكويت بتغطية اميركية واضحة.

       غادر تيلرسون مبنى وزارة الخارجية على الفور ليلحق حضور المؤتمر الصحفي المشترك في حديقة البيت الابيض والجلوس في المقاعد الأمامية دون تأخير.

       اعتلى الرئيس ترامب المنصة ليفجر موقفا مغايرا لما حدده وزير الخارجية قبل برهة قصيرة متهماً قطر بأنها “موّلت تاريخياً الإرهاب على مستوى عالٍ جداً .. والتوقف فوراً عن تمويل الارهاب.”

زمام القرار

         لا يبرح المسؤولون الاميركيون التأكيد على ان بلادهم هي مجموعة مؤسسات متماسكة تتحكم بمفاصل القرار، وان تباينت الرؤى بينها لدرجة التناقض. وهي السردية المفضلة التي ينطوي عليها بعض من المصداقية، بيد ان مركزية المصالح الاقتصادية والمالية المتشعبة تشي بتسليم صنع القرار لمجموعة اخرى مؤتمنة على الاستراتيجيات بعيدة المدة، ابرزها مؤسسة الاستخبارات والأمن المتعددة والصناعات العسكرية والمصرفية.

       ذلك الفهم اضحى من المسلمات ايضا، ليبرز الى التداول العام مصطلح “الدولة العميقة،” على نطاق واسع، كهيئة واضحة المعالم تتحكم بمفاصل القرار الحقيقي. الرئيس ترامب، من جانبه، ابرز المؤسسة العسكرية في مقدمة الهيئات التي ترسم مصير البلاد.

       ايضا، يبرع المسؤولون الاميركيون بالتأكيد على انه لا يوجد خلاف داخل المؤسسة الحاكمة، مهما تباينت المواقف، وأن الرئيس يمثل سياسة الدولة في نهاية المطاف. وربما ينبغي عليهم اجراء مراجعة دقيقة لتلك السردية في عصر ترامب الذي لا يولي اهتماما لأي من وزراء حكومته وينشر ما يخطر على باله في وسائط التواصل الاجتماعي، “تويتر” بشكل خاص.

       في هذا الصدد، صرح خلال المؤتمر الصحفي المشترك سالف الذكر، 9 حزيران، بالقول الصريح “قررت مع وزير الخارجية ريكس تيلرسون، وكبار جنرالاتنا وطواقمنا العسكرية، أن الوقت حان لدعوة قطر إلى التوقف عن تمويل الإرهاب.”

       سبق توصيفه اعلاه اجراءه مكالمة هاتفية مع أمير قطر، تميم آل ثاني، يوم 7 حزيران، اعرب فيه عن جهوزيته استضافة لقاء في البيت الابيض يضم زعماء الدول الخليجية لاستدراك الموقف “والتأكيد على أهمية عمل دول المنطقة بشكل جماعي للحيلولة من تمويل المنظمات الارهابية وايقاف الترويج لإديولوجية التطرف،” حسبما جاء في بيان رسمي صدر عن البيت الابيض.

       للإنصاف والتحلي بالموضوعية، اعتبرت النخب الفكرية والسياسية الاميركية ان زيارة الرئيس ترامب للرياض، وما رافقها من اغداق مالي غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية، بأنها “اطلقت فتيل المواجهة الاخيرة داخل مجلس التعاون الخليجي؛” لخشية النخب الجمعية من التقارب السياسي الاميركي مع المملكة السعودية “على حساب صلب الدعاية السياسية الاميركية بالدفاع عن حقوق الانسان.”

       تجدر الاشارة ايضا الى ان الوزارات السيادية الاميركية، الخارجية والدفاع، لزمتا الحذر والخطاب الموزون نسبيا في التعاطي مع دول الخليج، محذرتين من “مخاطر اطلاق وعود براقة لحلفاء اميركا من الدول العربية لن تسطيع الوفاء بها، لا سيما في سوريا او اليمن، والأهم راهنا في قطر.”

       اما النخب الاميركية المعنية فتحيل توقيت الانفجار في الخلاف الخليجي الى “تراجع الدور القيادي للرئيس ترامب، والرسائل المتعددة التي صدرت عن اقطاب ادارته .. ربما تضافرت جميعها لإنضاج عوامل الأزمة.” بل تجزم بأن الزيارة “وفرت ضوءاً اخضر للرياض وابو ظبي لاتخاذ اجراءات صارمة ضد قطر.”

       ما جاء في سياق سوريا، في خضم الأزمة الاخيرة، له تجلياته الميدانية على درجة بالغة الأهمية. نورد في هذا الصدد تصريح المتحدث باسم قيادة القوات المركزية الاميركية، رايان ديلون، 8 حزيران، قائلا ان “قوات التحالف (الدولي) لا تنوي مواجهة عسكرية مع النظام السوري او قواته الحليفة.”

        كما أكدت وزارة الدفاع، البنتاغون، على الأمر عينه ي اليوم التالي، 9 حزيران، على لسان المتحدث الرسمي جيف ديفيس بالقول “الاشتباكات السابقة في سوريا كانت للدفاع عن النفس، ونأمل ان لا نكررها مرة اخرى.” ولمزيد من التوضيح اضاف ان “الولايات المتحدة لا تسعى لقتال اي طرف غير داعش” في سوريا. ويأمل المسؤولون الاميركيون ان تتلقى الرياض وتوابعها الرسالة الاميركية الخاصة بسوريا على وجه السرعة.

       كما ان الرئيس ترامب، في مؤتمر سالف الذكر، ارسل رسالة اخرى للسعودية دون تسميتها بالقول “اريد ان أطلب من كل الدول التوقف فورا عن دعم الارهاب .. اوقفوا تعليم الناس قتل أناس آخرين.”

       قطر وصفها ترامب في لقاء الرياض بأنها “شريك استراتيجي بالغ الأهمية؛” اما الرسالة “التصالحية” الاميركية نحوها فيحيلها الاميركيون الى تواجد اكبر قاعدة عسكرية اميركية في المنطقة على اراضيها، العديد واخرى في السيلية، اذ تضم الاولى ما ينوف عن 10،000 عسكري اميركي. كما ان قطر تتحمل “كامل كلفة” التواجد العسكري الاميركي على اراضيها.

يُذكر ان الرياض وابو ظبي طالبتا الولايات المتحدة بنقل مقر قيادة القوات الوسطى من قاعدتيها العسكريتين من قطر الى بلديهما، بيد ان القادة العسكريين الاميركيين يعتبرون ان مسألة النقل “أمر غير وارد .. وكلفته باهظة تصل الى عدة مليارات من الدولارات، فضلا عن استغراق العملية لبضع سنوات.”

ماذا بعد؟

         قفز ترامب بيسر من موقف الى نقيضه، والذي يبدو هو الثابت في توجهات الادارة الحالية. فيما يخص قطر التأرجح بين وصفها “بحليف استراتيجي بالغ الأهمية،” الى نعتها بدولة راعية للارهاب في ظرف أيام معدودة.

       النخب الفكرية الاميركية والأقلية المقربة من ترامب ترجح ان “التناقض” الظاهري جاء ترجمة للقاءات الرياض واستحواذه على مخزون كبير من عائدات النفط والسيولة المالية كرد عرفان من البيت الابيض للرياض وابوظبي وتسليم دفة قيادة الدول الخليجية تحت عباءتهما.

       اما “البعبع” الايراني، الحاضر الدائم في الخطاب السياسي الاميركي والخليجي على السواء، لا يصمد امام النظر الى متطلبات المصالح الاستراتيجية الاميركية التي طال انتظارها للاستثمار في السوق الايرانية، عقب الاتفاق النووي، ابرز تجلياتها كانت في صفقة الطائرات المدنية بين طهران وشركة بوينغ الاميركية.

       النخب الفكرية والسياسية الاميركية النافذة، بعد اقرارها بضرورة دعم واشنطن لحلفائها الاقليميين، تحذر الادارة من مفاقمة الأزمة مع طهران بتسليم حلفائها الخليجيين دفة قيادة الصراع معها، لما ينطوي عليها من مخاطر تهدد المصالح الاميركية ان استمرت واشنطن في ممارسة دور “القيادة من الخلف.” بل “سيصرف الاهتمام ويقوض الاهداف السياسية الاميركية،” حسبما افادت يومية واشنطن بوست، 9 حزيران.

       عند التدقيق في “الاهداف الاميركية” يبرز الى الواجهة سعيها المستمر لزعزعة استقرار المنطقة واثارة الفوضى كي يتسنى لها الانقضاض التام وتطبيق مخططات التقسيم والهيمنة، ولتكن بأدوات محلية – وهو الدرس المحوري الذي خرجت به بعد غزوها واحتلالها للعراق والخسائر العالية في العتاد والارواح التي لا زالت تقض مضاجع سياسييها واستراتيجييها على السواء.

     ترامب المحاصر داخليا بتهمة الكذب والتضليل والمهدد بالتحقيقات واستكمال ملف إجراءات الاقالة من معارضيه يغامر باستخدام التأزيم في الملفات الخارجية لدرء المخاطر الجدية الداخلية، والأزمة مع وحول قطر مخاطرة قد تنقلب الى عكس ما يشتهيه خاصة وان احتمالات انهائها بسرعة لا تبدو في الافق القريب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى