مقالات مختارة

ترامب يوسع الهوة مع اوروبا د.منذر سليمان

 اميركا اولا وليذهب الجميع الى الجحيم

        تحاصر المؤسسة التقليدية الحاكمة، باجهزتها الأمنية والاستخباراتية والاعلامية، الرئيس ترامب بعدد من الملفات المؤذية لشخصه وادارته معاً، بذريعة التنسيق مع روسيا وتلقي بعض اعوانه اموالا مباشرة منها لقاء “خدمات” معينة قاموا بها.

في السياق العام يبدو ان ذلك المسار الثابت في ضغوطه يرمي لمراكمة سجل الاخطاء والخطايا التي تستدعي تنحيته او محاكمته او دفعه للاستقالة، ان أمكن، وتسليم نائبه مايك بنس زمام الأمور. بيد ان تلك الفرضية لا تصمد طويلا امام التبصر في توجهات ترامب، داخليا وخارجيا، للوقوف على مشاعر العداء المتبادلة بين ترامب واركان المؤسسة، لا سيما الأمنية والاستخباراتية بشكل خاص.

        ترامب لا ينافي معايير المؤسسة المرسومة، بل ذهب بعيدا في السعي  لتحقيق غاياتها غير آبه بضحاياه من دول وشعوب وقوى سياسية مجتمعة. اما التداعيات الداخلية لبرامجه المنبثقة من صلب معتقدات وتوجهات الحزب الجمهوري فهي ليست محل نقاش او نزاع.

ترامب، ببساطة شديدة، ازاح القفاز الحريري الذي كان يغلف السياسات الاميركية بميله الصريح لترويج السياسات والاستراتيجيات عينها دون مواربة او معسول الكلام، وهو ما يميزه عن الرؤساء التقليديين ممن سبقوه.

        يحرص الساسة والقادة الاميركيون على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم الحزبية على ديمومة تذكير مواطنيهم بعظمة النظام السياسي مما يخوّل المؤسسة الحاكمة بسط سيطرتها ونفوذها على العالم، بمسميات تحرص وسائل الاعلام المختلفة على تداولها وترويجها مثل شعار “استعادة او استمرار قيادتها للعالم؛” وتحديث الخطاب في عهد ترامب لاميركا اولاً.

        بهذه الخلفية شد الرئيس ترامب رحاله قاصدا جولة خارجية هي الاولى لتشمل محطات عديدة، حظي بافراط الاستقبال والاعداد له في الرياض، محطته الاولى، واسفرت عن عقد صفقات تسليحية واستثمارات في البنى التحتية الاميركية بمبالغ يصعب على المرء استساغتها. اما في المحطات الاوروبية المتعددة، فقد راهن مضيفوه من قادة حلف الناتو على امكانية “تليين” موقفه من الحلف والابتعاد عن مواقفه المتطرفة إبان حملته الانتخابية: انتقاده لصلاحية الحلف بأنه “عفا عليه الزمن” ورفضه لصيغة الاتحاد الاوروبي.

        البيان الختامي الصادر عن مجموعة الدول الصناعية السبع ابرز خيبة أمل القادة الاوروبيين والاخفاق في تلطيف مواقف ترامب، وتسليمه بوجود خلافات بين واشنطن وشركائها في المجموعة الدولية. وزاد الطين بلّة رفض ترامب الانضمام لنظرائه في المجموعة في التأكيد على التزام كافة الاطراف باتفاقية باريس حول تغير المناخ؛ تجسيدا للقول المأثور “تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.”

        خيبة الأمل الاوروبية من ترامب في غير محلها عند النظر الى حقيقة الاستراتيجية الاميركية على مدار عقود طويلة محورها تحقيق المصالح الاميركية الخاصة “وترغيب” الآخرين الانضمام لركبها خشية تلقي ضرباتها.

        وليس أدل على تلك المقولة من مقال مشترك نشرته يومية وول ستريت جورنال، 30 أيار الماضي، لأهم اركان البيت الابيض، مستشار الأمن القومي هيربرت ماكماستر والمستشار الاقتصادي غاري كون، وسعيهما الترويج لترامب بأنه لم يرضخ لضغوط الآخرين وكانت بوصلته “الحفاظ على المصالح الاميركية.”

        اوضح الثنائي المذكور بعبارات بالغة الصراحة والقسوة بأن ترامب “وجه رسالة واضحة لاصدقائنا وشركائنا في كافة محطاته” اعرب فيها عن جهوزيته للعمل سويا “عندما تتقاطع مصالحنا” مع الآخرين.

        ولم يشأ اركان المحافظين الجدد ترك الامور على عواهنها، محذرين الاطراف “التي نتشارك واياها مصالحنا بأنها لن تجد صديقاً اكثر ثباتاً من الولايات المتحدة. اما اولئك الذين يقررون تحدي مصالحنا سيواجَهون بعزيمة قوية.”

        وختم الثنائي وعظه بالتوضيح لمن يلزمه الأمر ان شعار “اميركا اولاً .. يشير ليس لاستعادة قيادة اميركا للعالم، بل تسخير مواردها الديبلوماسية والاقتصادية والعسكرية لتعزيز الأمن (القومي) الاميركي، والرخاء الاميركي، ونشر النفوذ الاميركي على امتداد العالم.”

        في السياق السياسي عينه، نستحضر ملخص تصريحات لمديرة الابحاث في المجلس الالماني للعلاقات الخارجية، دانييلا شوارتزر، بقولها ان جولة ترامب، خاصة في الشق الاوروبي منها، أكدت “المعادلة الصفرية ..” التي يستند اليها. اذ حسب رؤية ترامب للعالم يصبح اللاعب فيها اما فائزاً او مهزوماً. اما المستشارة الالمانية، انغيلا ميركل، فقد وصفت اللقاءات العاصفة مع ترامب بأنها “غير مرضية على الاطلاق.”

        دور الحكومة البريطانية في “الصراع الاوروبي – الاميركي” تجسد بموقف عدائي للمنظومة الاوروبية، واتخذت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي مواقفاً صبت في صالح الولايات المتحدة بالكامل، مما اغضب زملاءها الآخرين لا سيما المستشارة الالمانية اذ عبرت عن حنق غير معهود نحو واشنطن ولندن بالقول انه يتعين “علينا الاوربيين أخذ زمام امورنا بايدينا .. دفاعاً عن مستقبلنا بقوانا الذاتية وتقرير مصيرنا كأوروبيين.”

        انضمت تركيا لسيل الهجوم على دول حلف الناتو وعلى رأسها المانيا، لدوافعها الخاصة طمعا في ابتزاز دائم لبرلين على خلفية الانفاق على اللاجئين السوريين في اراضيها. وقال وزير خارجيتها مولود جاويش اوغلو في قمة الحلف ان “المانيا تدعم كل ما هو معادٍ لتركيا.” لكن تلك المسألة الخاصة بتركيا ومواقفها المتأزمة ايضا مع واشنطن لها فصل آخر خارج السياق الراهن.

        الازمة الداخلية في صفوف دول المجموعة الصناعية تتمدد وتتشعب، وتنذر بالمزيد، مما حدا بصحيفة فاينانشال تايمز اللندنية التحذير من انقسامات في طور التشكيل تتشاطر “العداء للولايات المتحدة والمملكة المتحدة .. مجموعة جي-7 (الصناعية) تنشطر الى فريقين كمرآة لما حدث ابان الحرب العالمية الثانية: محور الحلفاء فيه بريطانيا والولايات المتحدة، ودول المحور (المانيا، ايطاليا، اليابان، وفرنسا المحتلة).”

        التيارات الاميركية “الواقعية” في السياسة والاستراتيجية ايضا اصابها الاعياء من جولة ترامب الاولى لنتائجها في تعزيز الانقسامات، ويجادلون بأنه كان ينبغي على ترامب وفريقه اختصار جولته والعودة لواشنطن عقب انتهاء زيارته للرياض.

اتفاقية باريس للمناخ

        من نافل القول ان اعلان الرئيس ترامب انسحاب بلاده من الاتفاقية المبرمة عام 2015 بتوقيع 195 دولة للحد من التلوث المناخي على امتداد العالم، لم يكن مفاجئاً بقدر ما كان مخيباً لجهود العديد من القوى والشخصيات النافذة لحمله على الاقلاع عن وعوده الانتخابية بهذا الخصوص. معظم الدول الاوروبية اعربت عن خيبة أملها من تصرف واشنطن الفردي، وصفته يومية نيويورك تايمز بأنه يمثل “تبني البيت الابيض لاصوات الانعزاليين ضمن فريقه .. ابرزهم ستيف بانون.”

        وشددت الصحيفة على آلية اعلان ترامب لقراره باصطفاف حشد من مؤيديه وطاقم ادارته في حديقة البيت الابيض “كجمهور يستعد لخطاب النصر.،” اذ بدا ترامب في ابهى صوره الانتخابية وهو يعد مؤيديه بمزيد من الانتصارات وتجسيد شعار “اميركا اولاً.” واشاع لمؤيديه ان الاتفاقية “تلحق الضرر بسيادة الولايات المتحدة واقتصادها .. لنمضي معا في رفع مكانة اميركا العظيمة مرة اخرى.”

        ابرز زعماء الحزب الجمهوري، ميتش ماكونيل، رحب بشدة بقرار ترامب الذي “سدد ضربة قوية لسياسات الرئيس (السابق) اوباما العدائية لانتاج الطاقة محليا.” الرئيس باراك اوباما بدوره سارع للدفاع عن سياسته المناخية رداً على ترامب والحزب الجمهوري بالقول “الدول المتبقية في اتفاق باريس ستحصد الفوائد من خلال فرص العمل والصناعات التي ستنشأ.”

        التراشق في المواقف بين البيت الابيض والحزب الجمهوري من جهة قابله اصطفاف كبريات الشركات الاميركية لصالح الاتفاقية، عززه تصريحات الدول الاوروبية المختلفة الالتزام بنصوص الاتفاقية. كما ان أقلية في ادارة ترامب كانت على تباين واضح من موقفه، ابرزهم وزير الخارجية ريكس تيلرسون وكريمة ترامب ايفانكا.

        كما ان سيل الاتهامات في الداخل الاميركي يلقي اللوم على ترامب ليس للانسحاب بحد ذاته فحسب، بل لتراجع مكانة الولايات المتحدة وتزعمها للمبادرات الدولية، الأمر الذي اسهم برأيهم في تبوأ الصين واوروبا الدور الاكبر على الصعيد العالمي، مما يناقض وعود ترامب باميركا اولاً.

        الساسة الاستراتيجيون في اميركا يأخذون على ترامب تراجعه عن هدف محاصرة روسيا اقتصاديا وحرمانها من تزويد السوق الاوروبية بمصادر الطاقة من الغاز الطبيعي. كما ان انسحابه من اتفاق باريس يعزز توجه الاوروبيين لروسيا لضمان تدفق الطاقة في سياق البحث عن مصادر بديلة عن روسيا.

        يشار في هذا الصدد الى حجم الاستثمارات المالية الكبيرة التي اعدتها كل من الصين والمانيا للانفاق على تقنيات حديثة لتوليد الطاقة المتجددة مما ادى لانخفاض ملموس في كلفة الالواح الشمسية الواعدة.

        السؤال الابرز المتداول على ألسنة المراقبين في واشنطن محوره ماذا كان باستطاعة ترامب فعله غير ما فعل. الثابت ان قراره بأي اتجاه سيكلفه بعضاً من رصيده السياسي، ولذا سعى للتخفيف من غلواء خصومه الديموقراطيين بابقاء باب التفاوض مفتوحاً للتوصل الى اتفاقية تلبي المصالح الاميركية بشكل أفضل، وفق تصوراته.

        اما حقيقة اعادة التفاوض الموعود فقد فنده استاذ علوم البيئة في جامعة اكسفورد، مايلز آلان، بالقول ان مزاعم ترامب ما هي الا “محاولة لحرف الانظار.”

        تجدر الاشارة الى سلسلة من القرارات الصادمة التي اتخذها ترامب في الايام القليلة قبل الاعلان، أهمها وقف الالتزامات المالية لبرامج الأمم المتحدة المتعلقة باتفاق المناخ، فضلاً عن برامج محلية اخرى طالها مشرح قطع المعونات المالية، وما سيتبعها من تداعيات متسارعة تؤثر في سير الحياة اليومية.

مصير التصدع

        عند الاجابة على سؤال مدى التصدع في العلاقات الاميركية الاوروبية يرجح الساسة الاميركيون التغلب على تلك العثرة المرحلية، اذ ان المصالح الاميركية العليا تستدعي الابقاء على تماسك وتوسع حلف الناتو في اوروبا وبالقرب من الحدود والشواطيء الروسية.

        نظرة للتاريخ القريب لحلف الناتو لعقد الستينيات من القرن الماضي اصدر الرئيس الفرنسي شارل ديغول قراره بانسحاب قوات بلاده العسكرية من القيادة المشتركة للحلف، وأمهل كافة العسكريين الاجانب سنة كاملة لاخلاء الاراضي الفرنسية. وعادت فرنسا لخيمة حلف الناتو بعد تلك المرحلة دون ان تتضرر مصالحها او مصالح شركاءها الاوروبيين.

        ملفت للنظر ايضا ابعاد التشابه بين شخصية كل من ديغول وترامب، فكلاهما لم يتعاطى السياسة من قبل واستندا الى دعم قاعدة شعبية مؤثرة. ديغول ايضا رمى لاعلاء كلمة فرنسا على المسرح الدولي “واستعادة عظمتها،” مما كلفه ضمور في العلاقات مع جيرانه الاوروبيين. كما ان ديغول آنذاك عارض صيغة اتحاد اوروبي.

        تقاطع مصالح الولايات المتحدة مع دول الاتحاد الاوروبي بشكل خاص، وكذلك مع بريطانيا، تشكل الدافع الرئيس لوجهة السياسات المقبلة، والتي سترسم معالم العلاقة المقبلة بعد ذهاب قطبي الرحى، ترامب وميركل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى