القدس التي فوق تعود الى القدس التي في الأسفل: درور ايدار
1- كان من الصعب الهرب من الفجوة الرمزية بين تل ابيب والقدس في يوم الاربعاء الماضي، وهو اليوم الذي احتفلت فيه الدولة وجمهور واسع بيوم القدس. أنا احتفلت في الساعة 11:00 صباحا ببرنامج اريئيل سيغال في “صوت الجيش” بمرور يوبيل على تحرير المدينة. وفي الساعة الواحدة ظهرت تحدثت ياعيل ديان عن خمسين سنة على احتلال المدينة من خلال طرح التخوف من الاستفزازات المناهضة للاسلام خلال رقصة الاعلام. ليس فقط أمام العالم الغربي والاسلامي نحن ندير الصراع على القدس .
القدس هي صخرة خلاف بين اتجاهين مركزيين في حرب المواقف والافكار في داخلنا منذ عودتنا الى التاريخ في بداية حقبتنا الجديدة، وبشكل أكثر بروزا، منذ عودتنا الى البلدة القديمة قبل يوبيل من السنوات وفرضنا سيادتنا عليها.
مدينة القدس تمثل الجزء الديني لهوية الشعب اليهودي، مقابل دولة اسرائيل التي تمثل الجزء القومي العلماني في هويتنا. صحيح أن القدس لم تكن أبدا مدينة الهيكل فقط، بل هي مكان المُلك والعاصمة. ولكن منذ تم نفينا اصبحت القدس السفلى في الهامش مقابل القدس العليا. وكلما ابتعدنا في الزمن منذ الخراب السياسي كلما اندمجنا في روتين الشتات، وفي المواجهة اليومية للتحديات المحيطة – مشكلات كسب الرزق وحتى مشكلات الوجود والخطر على الحياة – نسينا العامل القطري والقومي للمدينة.
2- صحيح أننا حلمنا بالقدس، لكن يجب الاعتراف ايضا أنها أخافتنا. فالقدس مثلت البُعد غير العقلاتي في التفكير والوعي الجماعي لدينا، الذي قد ينفجر بشكل غير مدروس ويقضي على الجسم القومي الذي نجح في العودة الى الحياة بعد غياب طويل. وما الذي أردناه نحن بعد ألفي سنة؟ العودة كي نكون “طبيعيين”، أمة عادية مثل أمم العالم.
في الـ 19 سنة الاولى للدولة عشنا في دولة اسرائيل، وبقيت القدس خارج الجدار، وراء جبال الظلام، محشوة في كيس ذاكرتنا، كي لا تخيف حياتنا. ونحن أنكرناها واعتقدنا أنه يمكن العيش هكذا دائما. ما الذي يحافظ على سلامتنا العقلية كبشر، وما الذي يمنع اللاوعي من الخروج واغراقنا حتى الجنون؟ ليس الكثير: “حاجز دقيق يفصل بين الوعي واللاوعي، شيء يشبه حارس الوعي الذي يدافع عن أنفسنا من طوفان الخوف، الذي يطل علينا بين الفينة والاخرى في احلامنا.
في كتاب “البشرى حسب يهودا”، الذي يدور حول القدس “العلمانية” في نهاية الخمسينيات، يعرض عاموس عوز اقوال شلتئيل ابربنال، عضو مجلس الشعب الوحيد الذي عارض بن غوريون في موضوع الاعلان عن الدولة: “آباء الصهيونية استخدموا الطاقة الدينية والطاقة المسيحانية في قلوب الجموع اليهودية على مر الاجيال بشكل مدروس، وجندوا هذه الطاقات لخدمة حركة سياسية كانت علمانية في اساسها، وبراغماتية وعصرية. ولكن ذات يوم… انطلق العملاق: الطاقات الدينية والمسيحانية، الطاقات غير العقلانية التي حاول مؤسسو الصهيونية تجنيدها في صراعهم العلماني، ستندلع في يوم ما وستجر معها كل ما أراد آباء الصهيونية فعله هنا”.
لقد اقتبس عوز هذه الاقوال من رسالة وجهها غرشوم شالوم الى فرانتس روزنسفيغ في العام 1926 عن تهديد المسيحانية الذي يكمن في احياء اللغة العبرية. هذا الخوف يتكرر لدى كثير من الكُتاب، وتكفي قراءة صحيفة “هآرتس″ من اجل رؤية الى أي حد يغذي هذا الخوف جزء هام من الواقع العام الاسرائيلي. هذا التهديد يوجد ايضا في مركز كتاب عوز “سلام للاصوليين” الذي قمت في اعقابه بنشر نقاش بيني وبين المؤلف.
3- في بداية الثمانينيات نشر الكاتب أ.ب يهوشع كتاب بعنوان “بفضل الطبيعية”، وطلب فيه الابتعاد عن البُعد الديني المسيحاني والتمسك بالبُعد العقلاني في وجودنا القومي. وفي نهاية ذلك العقد قام بنشر كتاب آخر بعنوان “الحائط والجبل”. وكتب فيه عن جبل هرتسل كرمز لاسرائيل العلمانية، وطلب تفضيله على حائط المبكى الغربي، الذي يرمز الى البعد الديني غير العقلاني والمسيحاني.
ليس صدفة أن اختار يهوشع اسم “الجبل”، الذي يرمز في المصادر الى الحرم، ومنحه لجبل هرتسل. لقد اهتم يهوشع بالمتلازمة المسيحانية التي هي “الجنون” اليهودي، والتشوش النفسي الذي دخل الى نفسيتنا الجماعية مثل “الجن” الذي لا يتركنا.
إن محاولة حل المتلازمة والجنون تميز كثير من الكُتاب. لدى يهوشع تجد تعبيرها في علمنة المدينة بطرق مختلفة. وفي كتابه بعنوان “العروس المحررة” يقوم بمحاورة كتاب بعنوان “مجد” لشاي عغنون. أو في كتابه “المسؤول عن القوى البشرية” الذي يقلل فيه الصراع على القدس، بناء على الادعاء القائل إن القدس تتبع للجميع، لجميع الديانات والشعوب.
4- لكن القدس هي صهيون، والتفكير بأننا نستطيع اقامة الصهيونية بدون صهيون، أي بدون العامل المركزي الذي ترمز اليه القدس، يجعلني أستغرب في كل مرة من جديد. ماذا اعتقدنا، أن نعيش آلاف السنين بدون ارض حقيقية، وفقط بفضل “القدس العليا” – فكرة روحية دينية حافظت علينا بين الاحياء وبين الاموات، فكرة مسيحانية حول نهاية سعيدة لشعبنا بعد صعوبات كثيرة، عندها، عندما عدنا الى الحياة والى التاريخ، ولا سيما عندما عدنا الى البلاد، سننجح في مسح ونفي هذا العامل المسيحاني، البُعد غير العقلاني في الشخصية الجماعية الخاصة بنا؟ أن نعود الى البلاد التي طردنا منها وحلمنا بالعودة اليها، وأن نعيش فيها بدون “القدس السفلى”، القدس الحقيقية والسياسية؟.
ما الذي اعتقدناه، أن نتمكن من العيش الى جانبها، على مرمى حجر، الى جانب المحبوبة التي لا يمكن الوصول اليها والتي كان ذكر اسمها يمرر الكهرباء في اوساط الاجيال اليهودية، ورؤيتها وعدم الوصول اليها، والاكتفاء بجبل هرتسل كبديل؟ اتركوا لحظة الخلاف السياسي وفكروا في هذا الامر بطريقة نفسية بسيطة: هل بالفعل اعتقدنا أن هذا ممكن؟.
اسرائيل اليوم