إرادة الأسرى أقوى ودبلوماسية العدو أوهى الحرية والكرامة “25” بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
· اليوم الأربعون للإضراب
…
أثبت الأسرى والمعتقلون رغم أنهم معزولون ومنفيون في السجون والمعتقلات، بين جدران الزنازين وخلف الأسلاك الشائكة والأسوار العالية، وفي عمق الصحراء وبعيداً عن مناطق سكناهم، أنهم أكثر تأثيراً من دبلوماسية الكيان الصهيوني، وأعظم أثراً من وسائل إعلامهم المسمومة وأبواقهم الزائفة، وأقلامهم الملوثة، وأن صوتهم الخافت الذي لا يكاد يصدر من بين شفاههم التي يبسها الجوع والعطش، وأضناها الإضراب والعذاب، أعلى من كل أصواتهم، وأبلغ من كل خطبهم، وأقدر على الوصول إلى كل المنابر وجميع المنصات، وأن محاولاتهم المحمومة لمنعهم أو التأثير السلبي على إضرابهم قد باءت كلها بالفشل، ولم تجدِ في تبهيت قضيتهم، أو لفت الأنظار عن معاناتهم، أو حجب الأضواء عن إضرابهم، فلم يستمع إليهم إلا المنحازون لهم والمؤيدون لظلمهم، ممن يمدونه بالسلاح لقتلنا، ويدعمونه بالسياسة للفتك بنا.
فقد شهدت مختلف العواصم الغربية وكندا وأستراليا ومدن الولايات المتحدة الأمريكية، مسيراتٌ ومظاهراتٌ واعتصاماتٌ حاشدةٌ، شارك فيها مواطنوها الأصليون واللاجئون إليها، تؤيد الأسرى والمعتقلين، وتدعو إلى احترام حقوقهم وتحسين شروط اعتقالهم، وعدم المس بكرامتهم أو إيذاء إنسانيتهم، رغم أن الدبلوماسية الإسرائيلية قد نشطت في الخارج، على مستوى السفراء والمبعوثين الرسميين، وآخرين موفدين لهذه الغاية فقط، حيث عملوا على تشويه نضال الأسرى والمعتقلين، ونزع الصفة الإنسانية عن مطالبهم وإضفاء المسحة السياسية عليها، واتهامهم بأنهم يهدفون من وراء إضرابهم إلى فرض شروطٍ سياسية على الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، بل إنهم يمعنون في الإساءة إلى الأسرى والمعتقلين عندما يصفون إضرابهم بأنه معركة فلسطينية داخلية، وأنه يأتي نكايةً بالسلطة الفلسطينية ورئيسها، ويدعون بأن قطاعاتٍ كبيرة من السلطة تعارض الإضراب ولا تؤيده، وتنسق معها لتطويقه والسيطرة عليه.
لكن إصرار الأسرى على مطالبهم، وثباتهم على موقفهم، وتمسكهم بحقوقهم، وانضمام العديد إليهم والتحاق جميع التنظيمات بهم، جعل دول العالم كلها تصغي إليهم وتتابع قضيتهم وتواكب إضرابهم وتستمع إلى مطالبهم، رغم أنهم بإضرابهم المفتوح عن الطعام يقتربون من الموت، ويعرضون حياتهم للخطر، ويزيدون من احتمالات إصابة أجهزتهم الداخلية بأعطابٍ وأعطالٍ وظيفيةٍ، ولهذا فقد أصبح لإضرابهم مصداقية كبيرة، ولمطالبهم تقديراً ولحقوقهم احتراماً، وهو ما دفع الكثير من الدول إلى الاهتمام بقضيتهم، ورفع الصوت دبلوماسياً وإعلامياً لحث حكومة الكيان على الاستجابة لهم وحمايتهم بموجب اتفاقيات جنيف الدولية.
لكأن السجون والمعتقلات باتت منبراً بكل اللغات، يبث منها الأسرى والمعتقلون معاناتهم على كل الموجات، فلا يصدهم أحد ولا تحجب القوانين تردداتهم ولا تقوى على منع بثهم الوجداني والإنساني والسياسي، وهو الأمر الذي بات يحرج الكيان الصهيوني وإن بدا أنه غير مكترثٍ أو معنيٍ بالضغوط الدولية، أو أنه لا يعاني أصلاً من أي ضغوطٍ أو طلباتٍ، إلا أن زيارة حليفهم الأكبر والمدافع الأول عنهم دونالد ترامب، قد كشفت عن أن بعض مساعديه قد طلبوا من حكومة نتنياهو دراسة طلبات الأسرى الفلسطينيين والاستجابة لها، ومن المؤكد أن هناك من فريقه من قال لهم أن هذه القضية باتت تحرجهم، وأن استمرار إضراب الأسرى يقلقهم ويحول دون قيامهم بتقديم مبادرتهم السياسية الموعودة.
استطاع الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون المضربون عن الطعام في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، أن يرفعوا علم فلسطين فوق المباني الدولية السيادية، وعلى أعلى المنصات العالمية، وأمام البلديات الكبرى، وفي الملاعب الرياضية وأثناء مباريات كرة القدم التي يشهدها عشرات آلاف المتابعين والمحبين لهذا النوع من الرياضة، كما استطاع المناصرون للقضية الفلسطينية أن يرفعوا صور الأسرى والمعتقلين أمام البرلمانات وعلى الطرق الرئيسة التي يرتادها المسؤولون الحكوميون، في الوقت الذي أعلنت فيه حكوماتٌ غربية وغيرها تأييدها لحق الشعب الفلسطيني في بناء دولته وتقرير مصيره.
أما جنيف عاصمة الاتفاقيات الدولية الراعية لحقوق الأسرى وحقوق الشعوب الخاضعة للاحتلال، فقد أفردت جلساتٍ عديدةٍ ضمن مجلس حقوق الإنسان، لمتحدثين فلسطينيين وعرباً وغيرهم، لبيان قضية الأسرى والمعتقلين، واستعراض معاناتهم، وكشف ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضدهم، وتعريتها أمام القانون الدولي الذي تنتهكه ولا تحترمه، وما زالت جلساتها مفتوحة، يتحدث فيها المعنيون بكل اللغات، ويخاطبون كل الشعوب والحكومات، وما كان لهم أن يعتلوا هذه المنصات الدولية، ويرفعوا من فوق منابرها الصوت عالياً، لولا عدالة قضية الأسرى والمعتقلين وقدسيتها، ولولا المظالم الحقيقية والاعتداءات الفادحة التي يتعرض لها الأسرى على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
وعلى الرغم من قيام نتنياهو بتكليف مساعديه في وزارة الخارجية، للقيام بأكبر حملة دبلوماسية لدى عواصم القرار الدولي، لتشويه إضراب الأسرى والمعتقلين والتعريض بهم، وإضعاف حجتهم وبيان عدم صدقهم، إلا أن هذه الحملة قد باءت بالفشل، وأعلن ديوان وزارة الخارجية الإسرائيلية أن دبلوماسييهم في السفارات الإسرائيلية في مختلف أنحاء العالم يعانون من عدم إصغاء المسؤولين لهم، أو عدم اقتناعهم بحجتهم، وأنهم يميلون إلى تصديق الرواية الفلسطينية وتكذيب الرواية الإسرائيلية، في الوقت الذي شكا السفراء الإسرائيليون المعتمدون والقائمون مقامهم، من استدعاءات وزارات خارجية البلدان التي يعملون فيها، حيث يبدون لهم انزعاجهم من ممارسة حكومة كيانهم لسياسة البطش والتنكيل بحق الأسرى والمعتقلين، ومن إهمال المسؤولين لمطالبهم وعدم الاستجابة إلى حقوقهم الأساسية التي تنص عليها القوانين وتصونها الاتفاقيات والمعاهدات.
لو أن قادتنا وحكامنا كانوا بصدق أسرانا وطهر معتقلينا ما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تيهٍ وضياعٍ، وهزيمةٍ وانكسار، وذلٍ وهوانٍ، ولو أنهم عرفوا مذاق التضحية وطعم الفداء، وطريق المقاومة، كنا قد حققنا أمانينا وحررنا أراضينا، ورفعنا أعلامنا الوطنية فوق تلال وربى بلادنا، ولفتحت أمامنا العواصم أبوابها، وأصغى إلينا الملوك والرؤساء، ولكن قادتنا لا يعرفون التضحية، ولا يتقنون الفداء، ولا يحسنون غير الكذب والرياء، والخنوع والاستخذاء، ولا تعنيهم بلادهم إلا بقدر استفادتهم منها وغنيمتهم من خيراتها، ومكاسبهم من مدخراتها وكنوزها، ولهذا كان أسرانا أكثر عزةً منهم، ومعتقلونا أنبل نفساً وأطهر روحاً منهم.