المقاومة ومحورها بعد عاماً على التحرير… قوة وارتقاء العميد د. أمين محمد حطيط
في العام 1982 وبعد أن نفذت «إسرائيل» اتفاقية كامب دافيد وشطبت مصر من لائحة التهديدات العسكرية وأقفلت تالياً ملف الخطر المتأتي من الجيوش التقليدية العربية تطبيقاً لقاعدة كانت سارية يومها تقول «لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سورية»، بعد هذا الإنجاز الاستراتيجي الكبير توجّهت «إسرائيل» الى لبنان بهدف الإجهاز على المقاومة الفلسطينية وإقفال ملف التهديدات العسكرية نهائياً بوجهيها التقليدي وغير التقليدي لتثبت وجودها بشكل نهائي وتسقط الخطر الوجودي وتنتقل مباشرة الى مرحلة جديدة عنوانها توسيع الفضاء الحيوي «الإسرائيلي» وقيادة «الشرق الأوسط الكبير» الذي أُطلقت نظريته على لسان شمعون بيرس الذي كانت دعوته إلى العرب «منكم المال والعمال ومنا العقل والخبراء»، وبهذا نملك الشرق الأوسط القوي ونحكم العالم
.
لقد كان العام 1982 عاماً مفصلياً في تاريخ «إسرائيل» والمنطقة، قد يوازي بأهميته العام 1948 تاريخ قيام «إسرائيل» على الأرض التي اغتصبتها في فلسطين، لا بل قد يكون متقدماً عليه في الأهمية والخطورة. ففي العام 1982 ظهرت «إسرائيل» بأنها نهائية الوجود في المنطقة وأن جبهة الرافضين وجودها تتفكك وأن القدرة والإرادة على مواجهتها تتراجع. واتجهت أغلبية مَن في لبنان والمنطقة والعالم للتسليم بهذا الواقع، لأن رفضه على حد قولهم جنون أو انتحار.
رغم ذلك، ورغم احتلال «إسرائيل» نصف لبنان مع عاصمته، ورغم خروج كافة مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان الى تونس لإبعادهم عن فلسطين وتصفية المقاومة الفلسطينية، رغم كل ذلك ولدت المقاومة ضد الاحتلال على يد لبنانيين وحّدهم الهدف طرد المحتل ، رغم أن منطلقاتهم الفكرية والدينية والعقائدية والفلسفية كانت متنوّعة حتى التعارض فكان منهم الإسلامي والوطني والقومي والأممي واليساري الخ… لكنهم كانوا جميعاً يؤمنون بحق لبنان بحريته وسيادته ويريدون طرد العدو «الإسرائيلي» من الأرض المحتلة فيه، وعملوا جميعاً كل في حدود قدراته وإمكاناته في الميدان، حيث بدأ العدو يترنح في احتلاله وكان خروجه من بيروت أولاً ثم تدرّج الانسحاب الى ان استعصى المحتل في العام 1985 في شريط حدودي من الناقورة الى جزين رسم خريطته ليكون حزاماً أمنياً لـ«إسرائيل» وجهز «جيشاً» أسماه «جيش لبنان الحر»، ثم «جيش لبنان الجنوبي» لينوب عنه في حراسته والدفاع عنه لساعات قليلة يستلزمها تدخل الجيش «الإسرائيلي» الذي يكون مستريحاً في الخلف.
لم تكن مهمة المقاومة بعد العام 1985 سهلة في مواجهة العدو الذي تحصّن في مواقع احتلاله النهائية، وقد فرض الواقع الجديد على المقاومة أن تبتكر الوسائل والأساليب للمواجهة بما يؤذي العدو، وكان عليها أن تتطور لتواكب المتغيرات وطبيعة المهمات الجديدة. ولهذا وجدنا كثيراً من القوى التي كانت في صلب المقاومة في بداية انطلاقتها انكفأت وتراجعت الى حدود يكاد يُقال فيها إنها انسحبت من الميدان، رغم تمسكها القاطع بالفكر المقاوم ونهج المقاومة وخيارها. وفي هذه الفترة وتحديداً بعد متغيّرات العام 1989 وإرساء ما أسمي «الوفاق أو المصالحة الوطنية» في لبنان إثر اتفاق الطائف، تميزت المقاومة التي ينظمها ويقودها حزب الله تحت عنوان «المقاومة الإسلامية» والتي انصرفت بعد العام 1990 الى تطوير قدراتها ووسائل قتالها بشكل علمي ومنهجي مدروس مستفيدة من الاحتضان والدعم الذي تؤمنه سورية وإيران لها. واستمر العمل المقاوم من قبلها تصاعدياً وفقاً لاستراتيجيات متلاحقة الى أن تمكنت في العام 2000 من طرد العدو «الإسرائيلي» من الجنوب الا بعضه، حيث مزارع شبعا ومناطق ثلاث تحفّظ لبنان عليها بقيت تحت الاحتلال.
لقد ظنّ البعض أن التحرير يعني إنهاء المقاومة، لكن المقاومة ابتكرت مفهوماً آخر وأساساً آخر لوجودها وبقائها، وانتقلت من مفهوم «المقاومة مرتبطة بالاحتلال وجوداً أو عدماً» إلى مفهوم «المقاومة التي حرّرت مرتبطة بالخطر والتهديد وجوداً أو عدماً». و كانت المقاومة في فلسفتها هذه على حق في ما ذهبت إليه تؤكده الوقائع والتاريخ. وهنا يحضرني ما دار من نزاع وجدل بيننا وبين العدو «الإسرائيلي» في العام 2000 عندما كنت رئيساً للجنة العسكرية اللبنانية للتحقق من الاندحار «الإسرائيلي»، حيث تمسّك العدو بأمتار في راس تلة في يارون وأصريت أنا على وجوب خروجه منها، فتقدم مني يومها رئيس اللجنة الدولية قائلاً لماذا تتمسك بهذه الأمتار وهي أرض صخرية لا شيء فيها، فقلت إنها أرضنا، ولكن لماذا يتمسّك بها العدو وهي ليست له؟ اذهب فاسأله. وبعد حين عاد إليّ بالجواب «الإسرائيلي» وفيه «إنها أرض مهمة لـ«إسرائيل» في معركتها في الحرب المقبلة»، لكونها رأس تلة.
لقد أحسنت المقاومة في تقدير الواقع واتخاذ القرار في الاستمرار. وكان ذلك برأينا وعياً وإنجازاً يعادل إنجاز التحرير بذاته، إذ ليس المهم أن ننتصر فحسب، بل الأهم أن نعرف كيف نحمي الانتصار ونصونه صيانة تصاغ بمختلف الوسائل والأساليب المادية والفكرية والمعنوية. وهذا ما قامت به المقاومة التي يقودها حزب الله في لبنان، والتي يجسّدها محور المقاومة القائم من لبنان الى إيران وقلعته الوسطى سورية.
لقد عرفت المقاومة كيف تصوغ استراتيجيات البقاء والاستمرار وتعاظم القوة ونجحت في ما خططت، رغم عظيم المصاعب والتحديات والمخاطر، ورغم التحشد المحلي والإقليمي والدولي ضدها، ورغم الحرب الكونية التي شنّت عليها منذ سبع سنوات على الأرض السورية، حتى أن أميركا التي عجزت عن ترويض المقاومة وتفكيكها مستعملة كل ما لديها من طاقات وقدرات وهيمنة على الأمم المتحدة وسيطرة على قرار الدول وصولاً منذ أيام الى تحشيد دولي في الرياض لإنشاء حلف مهمته مواجهة المقاومة التي رغم كل ما ذكر استطاعت أن ترسم مشهداً يقوم على ما يلي:
المقاومة قوة إقليمية مؤثرة في المعادلة الإقليمية والدولية تتصدّى لمشاريع الاستعمار الاحتلالي وتجهضها، الى الحدّ الذي جعل ترامب يقول في السعودية إن الإرهاب ويعني به المقاومة لم يسقط المشاريع الغربية فحسب، بل أجهض أحلامهم.
المقاومة قوة مقتدرة فرضت على «إسرائيل»، ولأول مرة في تاريخها حققت مع العدو الصهيوني معادلة توازن الردع، ثم فرضت عليه التحول من استراتيجية عسكرية هجومية مضمونة النتائج الى استراتيجية دفاعية يشوبها القلق والحذر. وبعد ان كانت «إسرائيل» تذهب الى الميدان متى شاءت وتعود بالنصر الذي تريد، باتت مغلولة اليد في اتخاذ قرار الحرب أولاً ثم باتت تستشعر خطر انتقال الحرب الى أراضي فلسطين المحتلة ما ألزمها بالتوجه الى بناء الجدران الدفاعية التي تقيها خطر التسلل والهجوم البري الذي قد تلجأ اليه المقاومة.
المقاومة في لبنان عامل توازن واستقرار أمني وسياسي، وقد جعلت لبنان وبالتعاون والتنسيق مع الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية المعنية المختصة واحة أمن مستقرة، رغم أن النار تلهب المنطقة. وهنا قدمت المقاومة نموذجاً وعبرة مفادها أن القوة والاقتدار والإرادة هي ما يصنع الأمن، وليس الوعود والتطمينات الخارجية.
المقاومة ومحورها هما مَن سيرسمان خريطة المنطقة والسيطرة فيها، منطقة رغم كل ما ذكر من تحشيد وعدوان لن تكون مستباحة للعدوان الصهيوأميركي المستعمل أدوات إقليمية خليجية وإسلاموية. وإن ثبات المقاومة ومحورها في الميدان سبع سنوات في مواجهة العدوان، رغم ضراوته واتساعه، يؤكد أن محور المقاومة لا بد منتصر وأنه يخوض الآن معاركه الاخيرة على الحدود السورية العراقية، في معارك ستحسم نتائج المواجهة.
(البناء)