مقالات مختارة

«خونة»… في «نفق أردوغان» محمد نور الدين

 

«إنهم خونة.. وسنعثر عليهم ونعرفهم إسماً إسماً». هكذا علق النائب في «حزب العدالة والتنمية» شامل طيار على «خيانة» 48 نائباً لقرار الحزب التصويت في البرلمان ضد إحالة الوزراء الأربعة المتهمين بالفساد إلى المحكمة العليا، والذين ضبطت في منازلهم كميات كبيرة من الأموال في 17 كانون الأول العام 2013.

وكان هؤلاء قد مروا بسلام في تصويت لجنة التحقيق التي شكلها البرلمان بفضل غالبية أعضاء «حزب العدالة والتنمية» فيها، ولكن أمام البرلمان تم التصويت على كل وزير على حدة.

حضر الجلسة 302 نائبا من «العدالة والتنمية»، بغياب حوالي 15 نائباً منه، فيما حضر 197 نائباً من أحزاب المعارضة.

إيراد الأرقام هنا ليس لمجرد تسجيل وقائع، بل لأنه يحمل دلالات كثيرة عكستها نتيجة التصويت.

المفارقة الأولى أن الوزير الذي تمرّد على الرئيس رجب طيب اردوغان، ووجه إليه انتقادات، بعد ظهور فضيحة الفساد حينها، وهو أردوغان بيرقدار، نال أكبر عدد من الأصوات المعارضة لإرساله إلى المحكمة العليا، وهو 288 مقابل 219 أيدوا إرساله إليها. يعني انه لو افترضنا أن كل المعارضة صوتت مع قرار إحالته إلى المحاكمة (أي 197 صوتا) فهذا يعني أن 22 صوتا على الأقل من «حزب العدالة والتنمية» قد صوتوا مع قرار الإحالة.

وفي حالة الوزير ظفر تشاغليان صوت مع قرار الإحالة 242، أي أن الذين صوتوا من «العدالة والتنمية» ضده بلغ عددهم 45 نائبا. وفي حالة الوزير معمر غولير أيد قرار الإحالة 241، أي أن 44 نائبا من الحزب أيدوا القرار. لكن المفاجأة الكبيرة كانت مع الوزير ايغيمين باغيش، إذ صوت مع قرار الإحالة 245 نائباً، أي وفق الإحصاء الافتراضي فإن 48 نائباً من «العدالة والتنمية» قد صوتوا مع قرار الإحالة، فيما لم يؤيده سوى 255 نائباً.

طبعا قرار الإحالة كان يحتاج إلى 276 نائباً، لكن تصويت هذا العدد الكبير من نواب «العدالة والتنمية» إلى جانب قرارات الإحالة إلى المحاكمة لوزراء ونواب في الحزب كان مفاجأة لجهة حجمه.

هذا لا شك يعكس ما كان مستشار رئيس الحكومة الجديد إتيان محجوبيان، الأرمني الأصل، قد أشار إليه في تصريحات سابقة من أن هناك داخل «العدالة والتنمية» مناخ يقول بوجوب القبول بوجود فساد. وقد أثار هذا التصريح انتقادات داخل الحزب، علما أن محجوبيان ليس عضوا في الحزب، بل حتى كان منتقداً له، وربما لم يكن تعيين رئيس الحكومة احمد داود اوغلو له مستشاراً سوى محاولة استباقية في عام الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية في العام 1915.

الدلالة الثانية للتصويت أن جانبا من نواب «العدالة والتنمية» قد اظهروا اعتراضهم على زعامة أحمد داود اوغلو للحزب، وانتظروا هذه المناسبة للتعبير عن موقفهم.

والدلالة الثالثة أن الاعتراض على داود اوغلو هو اعتراض على اختيار اردوغان له، أي انه أيضا اعتراض على طريقة إدارة اردوغان لـ «حزب العدالة والتنمية» من القصر الرئاسي.

هل هذا يعني أن «العدالة والتنمية» مهدد بالتراجع أو بالتفسخ، عشية الانتخابات النيابية في حزيران المقبل؟

لا يمكن الجزم بالجواب بالنفي. فقياسا إلى التجارب السابقة، فقد نجح اردوغان دائما في التخلص من المعترضين على سياساته داخل الحزب. وكانت الانتخابات النيابية مربط خيله لتصفيتهم من خلال عدم ترشيحهم مجددا ليكونوا نواباً. وورقة القوة هذه موجودة في كل الأحزاب التركية، حيث القرار بيد زعيم الحزب. كما أن انقسام المعارضة المزمن الذي لا حل له، يجعل من فوز «العدالة والتنمية» وبمفرده أمراً قائماً على الدوام.

رئيس «حزب المركز»، الصغير جدا، عبد الرحمن قارصلي كان له رأي آخر، وهو أن نتيجة التصويت في البرلمان أظهرت أن «العدالة والتنمية» حزب مرشح للتفسخ. وقال إن الناخبين سيردون بهدوء على تهرب «حزب العدالة والتنمية» من المحاسبة أمام القضاء.

أما النائب السابق دينغير مير محمد فرات، أحد مؤسسي «العدالة والتنمية» الذي خرج من الحزب بعدما كان احد أبرز رموزه، فقد قال إن نواب الحزب الذين صوتوا مع إحالة الوزراء إلى المحكمة العليا قد تحركوا بوحي من ضميرهم لا بأمر من الزعيم. وأضاف إن «الحصانة التشريعية لن تفيدهم (النواب الموالين لأردوغان) في الآخرة، لأنها غير موجودة هناك».

وكان لافتا أن أحد نواب المعارضة قد رفع لافتة كبيرة كتب عليها قولا منسوبا للرسول محمد: «من يسرق حتى لو كان ابنتي فاطمة فسأعاقبه». ومن مظاهر التوتر لدى الوزراء الأربعة ما فعله ايغيمين باغيش عندما لم يضع ورقة صوته في الصندوق المخصص بصورة طبيعية، بل قام بتطيير الورقة تجاه الصندوق المخصص للتصويت.

ولم يفوت النائب في «حزب الشعب الجمهوري» عن اسطنبول محمود طانال المناسبة للتذكير بقضية الفساد، عندما رمى في صندوقة الاقتراع ورقة مالية من فئة الخمسين ليرة بدلا من ورقة التصويت. ولم ينتبه أحد إليها إلا عند فرز الأوراق.

لكن غياب ظاهرة التمرد على قرار الحزب منذ فترة طويلة، وربما من العام 2003، وظهورها من جديد في التصويت الثلاثاء الماضي يطرحان تحديات كبيرة أمام داود اوغلو، كونه رئيسا للحزب، ومدى إمساكه بالحزب في ظل الحضور المباشر لرجب طيب اردوغان. وإذا كان لـ «حزب العدالة والتنمية» أن يحافظ على أصواته في الانتخابات المقبلة، أي من 45 إلى 50 في المئة، فإنما بفضل استمرار طيف اردوغان حتى ذلك الحين.

ولقد وجه أردوغان رسالة شديدة وقوية لنواب الحزب وأعضائه، مفادها أنه «راجع» ولم يغب، حين ترأس اجتماعا للحكومة في القصر الجمهوري، في سابقة لم تحدث على امتداد الـ 15 عاماً الماضية. صحيح انه باستطاعة رئيس الجمهورية ترؤس اجتماعات الحكومة عند الضرورة، التي يحددها الدستور بالكوارث أو الحروب أو ما شابه، لكن ترؤس اردوغان لاجتماع الحكومة لم يكن له أي مبرر طارئ أو حدث استثنائي. جل ما في الأمر أن اردوغان أعلن، حتى قبل أن ينتخب رئيساً، انه سيمارس هذا الحق الدستوري.

رغبة اردوغان في ذلك كونه يراها خطوة أولى في الانتقال إلى نظام رئاسي، يجعله من جديد، دستورياً، مركز الثقل في السلطة التنفيذية. وهذا الأمر ربما لن يطول أكثر من فترة ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة. ففي حال فوز الحزب بأصوات ثلثي أعضاء البرلمان، فإن تعديل الدستور يصبح حتمياً لإنشاء نظام رئاسي، يعود بعده اردوغان رئيسا للحزب وللجمهورية، ليصبح داود اوغلو طي التاريخ تماماً كما فعل اردوغان مع رفيق دربه الرئيس السابق عبد الله غول حين «تآمر» عليه وأخرجه من المعادلة الحزبية، بل السياسية أيضا.

وليس من غير ذي دلالة أن تعتبر الصحف الرئيسية الموالية إلى «حزب العدالة والتنمية»، مثل «يني شفق» و «ستار» و «صباح» وغيرها، في عناوينها الرئيسية ترؤس اردوغان لاجتماع الحكومة بأنه خطوة نحو النظام الرئاسي. لا شك أن داود اوغلو لن يكون مرتاحاً لمثل هذا التطور، وبدا أحياناً مسروراً، لكن الصور عكست أيضا لحظات من وجهه عابساً وهو يجلس إلى يمين أردوغان، علماً أن بعض الصحف المعارضة قد نشرت صورة اجتماع الحكومة برئاسة أردوغان، مع الإعلان عن جائزة لمن يستطيع أن يعثر على رئيس الحكومة في الصورة.

وغالبا ما كانت صحف «العدالة والتنمية» تعكس عناوين المرحلة المقبلة، واسم داود اوغلو نفسه مر في المرحلة نفسها، عندما نشرت هذه الصحف استطلاعات رأي في الصيف الماضي من أن قاعدة الحزب تريده رئيسا للحزب والحكومة، قبل أن يكون هذا الأمر محسوما أو حتى مطروحا بقوة.

لم يعد الضمير هو معيار مواقف نواب «العدالة والتنمية» بل الولاء للزعيم. ومن الآن وصاعداً ستكون تركيا أمام مرحلة جديدة تختصر السلطة والحزب والحكومة والدولة في شخص أوحد اسمه رجب طيب اردوغان. ورغم أن المراهنة، ولو الضعيفة، على قواعد «حزب العدالة والتنمية» لا تزال قائمة، فإن الكرة باتت بكاملها في ملعب أحزاب المعارضة، لتجد طريقة لتجدد خطابها وتتوحد لإخراج تركيا من نفق الاستبداد الجديد.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى