“في بيتنا مدمن”! الجنوب في وجه “عدوان جديد” آمال خليل
المواد المخدرة تصل «ديليفري» إلى مكان السكن ولو في المناطق النائية
تفشي المخدرات، تعاطياً وترويجاً، لم يعد حكراً على البيئات المتحررة والمدينية. ولم تعد الفئات الريفية أو الملتزمة دينياً محصنة أمام هذه الآفة. «عدد المدمنين مرعب والأرقام في تصاعد، وقد نستيقظ على كارثة عظيمة جداً»، كما قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في تشرين الأول الماضي، محذّراً من أن هذا الخطر ليس أقل أهمية من الخطر الأمني، و«هناك من يريد تدمير مجتمعنا وكل الخطوط الخلفية». تفشّي الظاهرة وتسللها إلى الأطراف، فرضا النفير العام ضد «العدوان» الجديد
خلف القصور الفخمة، يرسم بلال حلمه الصغير فوق تلة نائية في مستشفى جويا الرعائي (قضاء صور). بعد أن ينهي علاجه من الإدمان على المخدرات، سيؤسس لبداية جديدة. «أنا مريض وضحية». يعرّف عن نفسه. يعي الأسباب التي جعلته مدمناً، أو «مجرماً» في نظر البعض. في الثامنة من عمره، قُتلت والدته بطلق ناري أمامه.
فقد القدرة على النطق. قبل وفاتها، شهد انفصالها عن والده ثم زواجه من أخرى. معهما عاش بلال وشقيقه بعيداً عن والدته. في الثالثة عشرة، عرض عليه فتى في حمّام المدرسة أن يجرّب سيجارة حشيشة. «عملت معي عجيبة. خلتني أنطق»! حفظ الفتى «فضل» الحشيشة، لكنه لم يكتف بها. جرّب أخواتها حتى الهيرويين و«الفراولة» بأنواعها «الأصلية والمضروبة». كما «تكتكت على الكوك (الكوكايين) وجربت ماجيك مشروم (حبوب مهلوسة)، واستفدت من تزوير وصفات لأطباء بدل 10 آلاف ليرة بمساعدة صيدلانيين لأشتري حبوباً مهدئة». وعندما كان ينقطع من أحد الأنواع، كان يستعين بصديق يتبادل معه «الخبرات» حتى «صرت موسوعة كيميائية». تابع دراسته وتخصص في علوم الكومبيوتر وتزوج. فشل في إيجاد فرصة عمل ضمن اختصاصه لأن سجله العدلي «وسخ رغم أن معي شهادة قد الحيط». ظل عاطلاً عن العمل طويلاً وأخفقت زوجته بالانجاب فوصل الى ذروة التعاطي. بين هذا وذاك، دخل السجن ثلاث سنوات بتهمة التعاطي. هناك «أتقنت اللعبة وصرت مروّجاً على أيدي السجناء المخضرمين. لتأمين مستلزماتي، اشتغلت وسيطاً بين التجار خارج السجن والتجار المحليين حتى تدبرت المال الكافي لأدفع الغرامة المتوجبة وأتعاب محاميتي وخرجت من السجن». خارج السجن، باع بعض أثاث منزل عائلته عندما كان والده يقطع عنه المال ليشتري المواد المخدرة. «وصلت إلى حافة اليأس مرات وقررت أن أتعالج. مكثت أشهراً بين مراحل العلاج وظننت أني خرجت إنساناً جديداً. لكنني ضعفت عند أول منعطف، خصوصاً أن المجتمع لا يحتضن التائب عن الإدمان».
خلفية وسيم، زميل بلال في مستشفى جويا الرعائي، أقل تعقيداً. هي المرة الأولى التي يحاول فيها الزوج والأب لثلاثة اطفال (37 عاماً) العلاج من الإدمان. بعد 13 عاماً من التعاطي، تعب من التستر واتخذ قراره: «أريد أن أشفى قبل أن أنفضح». الضيق المادي للأسرة لم يدفعه إلى المخدرات. «لم أعان من مشاكل أسرية أو فراغ. درست الإخراج والتمثيل. إنما بلشت هيك بتناول الكحول والحبوب مع أصدقائي في الجامعة. قالوا لي: جرّب شو فيها». ثم تطور الأمر إلى الحبوب المخدرة والمهلوسة. «صارت تعطيني قوة لأعمل ساعات أطول وتقضي على الخجل والتردد في التعامل مع الناس وتنسيني المشاكل». بعد الزواج والإنجاب، «بت أنزوي وأتعاطى في السر خجلاً مما أفعله. المخدرات تعطيني قوة.
لكن في حال تأخرت عن موعد تناولها كانت تدمرني فلا أستطيع الوقوف على قدمي».
تفشّي الظاهرة وتسللها إلى الأطراف، واختراقها البيئات المحافظة والقرى الصغيرة، كل ذلك فرض النفير العام ضد «العدوان» الجديد. قبل سنوات، كان الإرتباك يلازم مدير المستشفى الدكتور فادي الأطرش أثناء تقديمه محاضرات توعية حول المخدرات في القرى الجنوبية المحافظة. «القصة كانت بعيدة عنا، لكن التوعية الإحتياطية واجبة» كان يقول. إلا أن تجربته في إدارة مستشفى جويا الرعائي، منذ أربع سنوات، جعلته يكتشف أن هذا «العدوان لا يستثني أحداً». وهو ما دفع الهيئة الصحية الإسلامية وجمعية العمل البلدي في حزب الله إلى إطلاق «حملة الوقاية من المخدرات».
يشير الأطرش إلى أنه عند بدء تشغيل المستشفى، عام 2009، وهو الوحيد المتخصص بمعالجة المدمنين في الجنوب، كان الحد الأقصى للنزلاء في قسم معالجة المدمنين يبلغ عشرة. على نحو تدريجي، أخذ العدد يزداد إلى أن فاق الطلب القدرة الإستيعابية، ويجري البحث في توسعته لاستيعاب 60 سريراً بدلاً من 28 حالياً. بالتزامن، تنجز ورشة تشييد وتجهيز مستشفى مماثل في خلدة يتسع لحوالي مئة سرير، وقسم خاص لمعالجة المدمنات. الإزدياد المطرد ليس مرده تفشي الإدمان فحسب، بل تطور الوعي لدى الناس لمواجهته. بحسب الأطرش، كان «المبتلون بالإدمان يواجهون الأمر بالكتمان والإنزواء هروبا من وصمة العار، وقد وجد هؤلاء فينا متنفساً لحل مشاكلهم». استناداً إلى الحالات التي استقبلها المستشفى، تتركز أعمار المصابين بين 16 و35 عاماً: «كلن ولاد ناس وكثير منهم من بيئات محافظة. معظمهم بلشت معهم بجملة: خدلك سيجارة مش رح تموت منها». أما أبرز الأسباب التي دفعتهم للإدمان فهي البطالة والفراغ والمشاكل الأسرية كالتفكك الأسري وغياب أحد الوالدين، خصوصا الأب، والبيئة الاجتماعية ورفاق السوء.
اليوم، في كل بلدة، باتت زمر «الحشاّشين» معروفة. في السابق، كان المتعاطي يجهد للوصول إلى المادة. حالياً، المواد المخدرة «تصل ديليفري إلى مكان السكن ولو في المناطق النائية»، يؤكد الأطرش. «الهيرويين يكاد يكون مدعوماً نظراً لانخفاض سعره مقارنة مع البلاد العربية الأخرى، والترويج المنظم في المدارس والجامعات وفي الأحياء المختلفة بات أمراً واقعاً».
رعاية فإحياء فمعافاة
مستشفى جويا الرعائي كان أساساً مركزاً للعلاج الفيزيائي. إلا أن تفشي ظاهرة تعاطي المواد المخدرة وازدياد حالات الإنتحار والجرائم في القرى، حوّلت وجهة استخدامه. أخيراً، نال المركز ترخيصاً حكومياً كمستشفى للأمراض النفسية ومعالجة الإدمان. نزلاء القسمين لا يلتقون ببعضهم علماً أن الإدمان مصنف علمياً من ضمن الأمراض النفسية.
المدمن الذي يقصد الهيئة الصحية الاسلامية للعلاج يتوجه إلى إحدى العيادات الخارجية المنتشرة في صور والنبطية وبيروت وبعلبك حيث تجرى المقابلات التقييمية لحالته. وفق الدكتور أحمد كحيل، أحد المسؤولين في «حملة الوقاية من المخدرات»، يحوّل المريض إلى مستشفى جويا الرعائي للخضوع للمرحلة الأولى من العلاج التي تتضمّن: الفطام والسحب الآمن للسم من الجسم والإنقطاع الكلي عن المواد المخدرة. هذا الإنقطاع يتسبب بمضاعفات جسدية منها نوبات (نفضات بتعبير المدمنين) وآلام مبرحة يتولاها الكادر الطبي المجهز بقسم الطوارئ والعناية المركزة. يقيم المدمن في المستشفى بين أسبوعين وثلاثة أسابيع كحد أقصى، يحظى خلالها بعلاجات طبية ورعاية تمريضية وعلاجات نفسية متخصصة وخدمات استجمامية كالسباحة والرياضة وألعاب التسلية والترفيه والسينما… ثم يُنقل إلى مركز «إحياء» (افتتح عام 2012) في سوق الغرب للخضوع للمرحلة الثانية من العلاج: التأهيل والتمهيد لإعادة الإندماج في المجتمع لفترة لا تقل عن تسعة أشهر. يوضح كحيل أن العلاج النفسي يركز على الأسباب التي أدت إلى الإدمان. «في كثير من الأحيان، لا يكون الإدمان هدفاً، بل تغطية على المشكلة الأساس التي تكون نفسية، منها رهاب اجتماعي أو صدمة أو مشاكل أسرية أو اضطرابات نفسية وغيرها. فيما يؤدي الإدمان أحياناً أخرى إلى مرض نفسي».
في سوق الغرب (قضاء عاليه) وسط في غابة مترامية، يخضع المريض لنظام حياة. دورة نومه تعاد إلى طبيعتها بعد أن كان يسهر ليلاً وينام نهاراً. يشارك في أنشطة زراعية ورياضية وحرفية. عندما يتم دورة العلاج، يستمر العمل الإجتماعي في الهيئة بمتابعته في منزله ضمن برنامج «معافاة». يشارك في جلسات استماع فردية وجماعية وفي أنشطة ترفيهية وتعبيرية ومسرحية، فضلاً عن مساعدته في متابعة دراسته أو عمله ووضع هدف نصب عينيه والإبتعاد عن الفراغ وتعزيز علاقته بالدين.
يقر كحيل بأن «البعض يزحط (يعود للإدمان) لأنهم جلبوا غصباً عنهم بضغط من عائلاتهم وهم غير مقتنعين، لا سيما ذوي الأعمار الصغيرة». منعاً لتفاقم أوضاعهم، استعرض كحيل خطة مواجهة تشمل كافة شرائح المجتمع وتستهدف مساعدة المدمن من قبل المحيط على الشفاء من جهة والوقاية من تسجيل إصابات جديدة من جهة أخرى. هدف «حملة الوقاية من المخدرات» تشمل رفع مستوى المعارف عن المواد المخدرة بين العامة، ورفع مستوى رصد المدمنين في حال تغير سلوك الأفراد المعتاد من الشكل إلى النوم والأكل، وحضانة المريض ودعمه وتوجيهه وتوجيه الأهل. في هذا الإطار، أنجزت الهيئة تدريب 300 منشط اجتماعي مهمتهم تحقيق هذه الأهداف في البلدات.
«تميز لبناني»: مخدرات رقمية و«موسوعة» بدائل!
يشير الدكتور أحمد كحيل إلى «تميز لبناني» في عالم المخدرات عبر تعاطي المدمن أكثر من مادة مخدرة! أما آخر «موضة» فهي «المخدرات الرقمية» التي تعطي شعوراً مشابهاً لتعاطي المخدرات، وهي عبارة عن أقراص مدمجة وأشرطة خاصة وسماعات أذن يتم الحصول عليها عبر الإنترنت. ومن «السمات» اللبنانية أيضاً، الجرعات الزائدة و«إبداع» المدمن في إخفاء مظاهر إدمانه، وانتشار «موسوعة بدائل» في حال انقطاع مادة ما.
(الاخبار)