تهدئة حذرة بين موسكو وواشنطن د.منذر سليمان
لا تبدد مخاطر العدوان الاميركي على سوريا
انقسام في القرار السياسي
رحّب الرئيس ترامب، مطلع الشهر الجاري، باقتراح نظيره الروسي انشاء “مناطق تخفيض التصعيد” باعتبارها “مناطق آمنة” في سوريا، خلال مكالمة هاتفية بينهما؛ أُتبِعت بزيارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لواشنطن ولقائه مع الرئيس ترامب ونظيره الاميركي ريكس تيرسون.
تراهن روسيا، وفق المراقبين الاميركيين، على نجاح مبادرتها في سوريا لتشكيل منصة لاطلاق مسار الحل السياسي بوتيرة أعلى، تعززها الانتصارات الميدانية للدولة السورية وحلفائها على المجموعات الارهابية وداعميها.
وزير الدفاع الاميركي جيمس ماتيس، من ناحيته، عبر عن “حذره” من الاقتراح الروسي، الذي اثمر اتفاقيات آستانا بحضور اميركي “كمراقب؛” اسفر عن اتفاق له ما بعده، من تحول في مركز الثقل في الشأن السوري من “واشنطن وجنيف الى الشرق باتجاه موسكو.”
ما يقلق المؤسسة العسكرية الاميركية ايضا ان روسيا في عهد بوتين أتقنت فناً من “فنون الحرب – عنصر المفاجأة” والمبادرة، منذ دخول الاخير بقوة في سوريا نهاية ايلول / سبتمبر 2015. انتزعت موسكو المبادرة ليس في سوريا فحسب، بل اضحت عاملا لا يمكن القفز عنه في المعادلات الاقليمية الاخرى.
“المناطق الآمنة تحقق نجاحاً حين تتضافر الارادة السياسية والقدرات العسكرية” للقوى المعنية، كما اوضحت شهرية فورين أفيرز، في نسختها الالكترونية 11 أيار الجاري؛ مناشدة الرئيس ترامب “تبني رسالة واضحة لطمأنة حلفاء الولايات المتحدة والشعب الاميركي .. ووضع قواعد اشتباك واضحة” في سوريا. واستطردت ان المطلوب سياسياً هو “إعادة صياغة لسياساته نحو سوريا في اطار المهمات والمتطلبات الانسانية.”
اما السر في لقاء لافروف – ترامب العاجل، يشير اليه بعض المسؤولين في البيت الابيض بأنه دليل على عزم روسيا “حث اميركا على استئناف مسار سياسي يؤدي لتحقيق اتفاق شامل.” ويفند اولئك الجانب المعلن من الزيارة، البحث في “المناطق الآمنة،” لا سيما وانها تندرج تحت اطار التدابير الميدانية التي باستطاعة القيادة العسكرية في البلدين ارساء قواعدها “لتجنب صدامهما المحتمل” فوق الاجواء السورية.
وزير الدفاع ماتيس ترجم قلقه بايفاده رئيس هيئة الاركان الاميركية، جوزيف دانفورد، على رأس وفد عسكري رفيع لزيارة فلسطين المحتلة، لبحث ملفاتسوريا والعراق وايران، مع “وزير الدفاع ورئيس هيئة الاركان العامة، غادي ايزنكوت، ووزير الأمن افيغدور ليبرمان، وكبار المسؤولين في الجيش الاسرائيلي.”
الوفد الاميركي لم يشأ التعليق او نفي مزاعم “اسرائيل بأنها تشارك بشكل أساسي في الهجوم الاميركي على داعش في سوريا والعراق، من خلال نقل معلومات استخباراتية،” استبق ذلك زيارة وزير الدفاع ماتيس الى المنطقة، بالتزامن مع بدء مناورات عسكرية مشتركة تجري في الاردن والبحث عن آلية “هيكلية أمنية” مندمجة لتلك الدول المشاركة – تعزيز التطبيع من البوابة الأمنية.
اتفاق “مناطق خفض التصعيد – المناطق الآمنة” الاضطراري، بالنسبة لواشنطن، تناقضه جملة من التصريحات والتحركات الميدانية بالاشارة الى رهاناتها على اشعال “الجبهة الجنوبية” السورية انطلاقا من عمق الاراضي الاردنية، بمشاركة فاعلة من الاردن و”اسرائيل” وحلفاء اميركا في الخليج.
عند البحث والتدقيق في طبيعة اتخاذ القرار السياسي الاميركي يبرز بشدة سيطرة المؤسسة العسكرية على المفاصل الاساسية، ليس في زمن ترامب فحسب، بل منذ زمن يمتد على عدة ولايات رئاسية متتالية.
في عام 2008، حذر رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ آنذاك، جوزيف بايدن، من سيطرة البنتاغون على القرار السياسي مذكرا زملاءه بأن ميزانية الاخيرة الشاملة تصل لنحو 700 مليار دولار، بينما ميزانية وزارة الخارجية لا تتعدى 29 مليار دولار.
اما مكتب المساءلة الحكومي فقد اوضح في احدث تقرير له ان البنتاغون تنفق نحو مليار دولار سنويا على “العلاقات العامة والدعاية؛” مما يعزز مخاوف المهنيين والديبلوماسيين على السواء من أن “الديبلوماسية الاميركية اضحت أداة طيعة وضعيفة في القرار السياسي منذ عدة عقود خلت.” ويشهد على ذلك ايضا سيل البرقيات المرسلة من سفراء الولايات المتحدة في “باكستان والسعودية” ودول أخرى بأن حضورهم الرسمي مع الوفود الاميركية اضحى هامشيا وتسجيل المحضر ليس الا. اما القرار، وفق برقياتهم المسربة، فهي بيد القادة العسكريين الزائرين والذين “يحجبون عنهم اي تفاصيل حقيقية.”
لمزيد من الاضاءة على تهميش الديبلوماسية في عهد ادارة ترامب، اوكل وزير الخارجية ريكس تيلرسون مهمة “اعادة هيكلة طاقم الوزارة،” وتحقيق تخفيض بنسبة 27% من كادر موظفيها، الى المسؤول السابق في شركة “لوكهيد مارتن،” ويليام إنغلي، وهي اشارة لا تخلو من الدلالة لعزم الاخير اعلاء سيطرة مصالح صناعة السلاح على مواطن القرار لسنوات قادمة.
سورياً وفي الشمال منها، اعربت تركيا عن خيبة أمل كبيرة من قرار البيت الابيض تسليح المجموعات الكردية “الحليفة لواشنطن” مباشرة باسلحة متطورة؛ وارسلت وفداً عسكرياً رفيع المستوى لواشنطن ضم رئيس الاركان خلوصي أكار، ورئيس الاستخبارات حقان فيدان والمتحدث باسم الرئاسة التركية، التقى فيها مستشار ترامب لشؤون الأمن القومي، هيربرت ماكماستر، وآخرين في البيت الابيض. الوفد التركي أُبلِغَ بالقرار خلال لقاءاته المعدة مسبقا.
وزير الدفاع التركي، فكري إيسك، انتقد قرار البيت الابيض “المأساة” بشدة محذرا من تداعياته على الولايات المتحدة والمنطقة عموما. رئيس الوزراء بن علي يلدريم أخطر واشنطن بأن عدم تراجعها عن قرارها “سيؤدي الى عواقب سلبية على الولايات المتحدة ايضا.”
في هذا الصدد، حذرت اسبوعية ناشيونال انترست، مطلع الشهر الجاري، من المشاركة العسكرية الاميركية في عملية الجبهة الجنوبية، كما يطلق عليها، لما ينطوي عليها من مخاطر “نشوب صراع مباشر او غير مباشر” مع الجيش السوري وحلفائه، كما ان “غزواً عسكرياً بمشاركة اميركا لجنوب سوريا سيصعد التوترات السياسية والديبلوماسية مع روسيا .. والتداعيات التي سيخلفها على الأمن القومي للاردن.”
اما في الاردن، مسرح العمليات لانطلاق الغزوة المتجددة على سوريا، يتواجد في قاعدتي المفرق والازرق، في الشمال المحاذي للاراضي السورية، قوات عسكرية جوية وبرية من “اميركا وبريطانيا وفرنسا وهولندا وبولندا والبحرين” بانتظار ساعة الصفر. في خطوة “ترضية” للاردن، وافق الكونغرس الاميركي على تقديم مبلغ 1،3 مليار دولار على شكل “مساعدات” للاردن.
قرع طبول الحرب هي السردية الطاغية والمفضلة لدى القيادة العسكرية الاميركية، التي تتحكم بمفاصل السياسة بدقة ولم تعد مجرد تكهنات تدور في خلد المحللين والمراقبين.
اما العنصر المفقود، بحسب نشرة فلورين أفيرز سالفة الذكر، غياب “خطة تراجعية او انسحاب” اميركية من سوريا. لماذا، تعلل النشرة المرموقة ان ذلك يندرج في اطار “المغامرة الكبيرة الناجمة عن انشاء مناطق آمنة من شأنها استدراج اميركا وحلفائها الى صراع طاحن متعدد الابعاد في سوريا الى أجل غير مسمى.”
وحذرت النشرة القيادة العسكرية الاميركية من اغفال هذا العنصر وضرورة “ترابط قرار الانسحاب (الاميركي) مع تطبيق شامل لوقف اطلاق النار في عموم الاراضي السورية أو اتفاقية سلام تؤدي لنشر قوات حفظ سلام أممية.”
امام هذه المروحة الواسعة من النوايا والتحذيرات الاميركية، بما تتضمنه من غموض مقصود في التفاصيل وتناقض مدروس في التصريحات، تمضي المؤسسة الرسمية بكافة اقطابها قدما في السعي “لبسط سيطرتها الاحادية” اقليميا وعالميا، وتوفير “الأمن لاسرائيل.”
في هذا الصدد، وقبيل زيارة الرئيس ترامب للرياض الاسبوع المقبل، اعلن “مسؤول رفيع” في البيت الابيض ان الادارة اقتربت من “استكمال سلسلة من صفقات اسلحة للسعودية تزيد قيمتها عن 100 مليار دولار .. إنه تطور جيد للاقتصاد الاميركي؛ (لكن) ستظل اسرائيل محتفظة بتفوقها.”
استمرار المراهنة الاميركية على تسخير القوات الكردية الموالية لها في العمق السوري لا ينفصل عن مساعيها الدؤوبة تحقيق خرق مؤثر في الجبهة السورية، لا سيما بعد تحرير مدينة حلب وتراجع فعالية العامل التركي في السياسة الاميركية في الاقليم.
وزير الدفاع التركي، فكري إيسك، انتقد قرار البيت الابيض “المأساة” بشدة محذرا من تداعياته على الولايات المتحدة والمنطقة عموما. وحذر واشنطن، حسبما اوردت وسائل الاعلام التركية، من انه لا يجوز توقع تأييد بلاده لأي عملية مقبلة في سوريا تضم “مجموعات ارهابية،” في اشارة تهديد لاغلاق قاعدة انجرليك. رئيس الوزراء بن علي يلدريم أخطر واشنطن بأن عدم تراجعها عن قرارها “سيؤدي الى عواقب سلبية على الولايات المتحدة ايضا.”
بالمقابل، سعى وزير الدفاع الاميركي، جيمس ماتيس، طمأنة حلفائه وعلى رأسهم تركيا بأن بلاده “على يقين بقدرتها على تجاوز وحل الخلافات القائمة مع تركيا،” ممهدا الطريق بذلك لاستكمال زيارة الرئيس التركي اردوغان لواشنطن بعد بضعة ايام، والتي لاحت احياناً ظلالاً من الشك حول المضي بها.
ما بعد آستانا
من الضروري بمكان الاقرار بالتحولات الميدانية التي اثمرت اتفاقات “مناطق خفض التصعيد – المناطق الآمنة،” ليس في بعدها الجغرافي الصرف، رغم أهميته، بل كمؤشر “لاعادة تعريف لغة الصراع” بين القطبين العالميين، بعيداً عن السردية الاميركية والغربية؛ لعل أبرزها قبول واشنطن ما رفضته بقوة في السابق لناحية تصنيف المجموعات المسلحة وتلكؤ وزير خارجيتها السابق، جون كيري، في تحديد أماكن تواجد “المجموعات المسلحة المعتدلة” في الاتفاق الثنائي مع نظيره الروسي.
بناء على ذلك، اسهم الميدان في تعديل “ضوابط” مؤتمر جنيف، وفق التفسيرات الاميركية في عهد اوباما الرامية لاستبدال المؤسسات السورية الراهنة بحلول مرحلية هدفها تحقيق الهدف “الاسمى” وهو تغيير بنية النظام. اما مسار آستانا فكان “فرصة متجددة لإعادة تعريف قواعد اللعب” بانضمام تركيا رسميا هذه المرة.
كما ينبغي الاشارة في هذا السياق الى تراجع أهمية الاخطبوط الاعلامي الغربي في ادارة الصراع في سوريا، قياسا بمرحلة ما قبل آستانا، يتصدره كبريات وسائل الاعلام الاميركية؛ سي إن إن، أن بي سي، فوكس نيوز، وكبريات الصحف اليومية والمجلات الاسبوعية ومراكز الابحاث؛ والبريطانية وعلى رأسها شبكة بي بي سي والقناة 4؛ والاعلام الفرنسي والخليجي بكل تلاوينه.
من بين أهم المعادلات الاعلامية التي اطيح بها في سوريا السردية الاميركية والغربية التي اولت اهتماماً عاليا “لمسار جنيف” التفاوضي بغية “التوصل لحل سياسي طويل الأجل في سوريا؛” على خلفية تراجع وهزيمة أدواتها في الداخل السوري واعادة تموضع من تبقى منها في “جزر معزولة.” والآن، اضحت تلك المجموعات “المعتدلة” مصنفة ارهابية مما يقتضي من “حلفائها بالأمس” القتال ضدها في المناطق الاربعة التي تم الاتفاق عليها.
اما مسألة المراهنة على التباينات اللغوية والتعريفات المتبعة لمصطلحي “مناطق خفض التصعيد – مناطق آمنة” و “مناطق حظر الطيران،” كما تفضل واشنطن، فأن الفهم الروسي المعلن على لساني الرئيس بوتين ووزير خارجيته لافروف أكد ان “حظر الطيران” يعني عدم انطلاق سلاح الجو الاميركي فوق الاجواء السورية المتفق عليها. كما اوضحت الحكومة السورية انه لا مجال للبحث في نشر قوات أممية في البلاد، قاطعة بذلك الطريق على دور متجدد للهيئة الدولية. وتجدر الاشارة في هذه النقطة المفصلية ان “التفسير الاميركي” للمناطق لم يعد مدرجا كما كان في السابق، او طاغيا في تفسيره الاحادي.
مصير “داعش” المرئي هو اعادة تموضعه اميركيا، كما يرجح، وربما تحركه ولو ببطء باتجاه المناطق الاربعة المعلنة اوبعضها، لا سيما “المنطقة الجنوبية،” وان تسنى له ذلك تبرز فرصة أخرى لواشنطن لتخريب اتفاقات آستانا مرة أخرى واعادة تغليف الخطر الآتي من التنظيم كمنصة وذريعة لزيادة تواجدها وانخراطها عسكريا في سوريا وحولها؛ كما تدلنا سيل التصريحات الرسمية بضرورة زيادة عدد وعتاد القوات الاميركية في المنطقة.