القاهرة ـ رفح: طريق «النهب» الدولية هاني إبراهيم
ليس غريباً أن «يزغرد» الرجال قبل النساء حينما يصلون إلى معبر رفح. السفر من مطار القاهرة إلى غزة صار قطعة من عذاب مضاعف، ليس لطول الطريق وخطورته فحسب، فضلاً عن تقييد حركة الفلسطينيين بالسفر حصراً عبر «حافلات الترحيل»، بل بمسلسل السرقة والإهانة المتواصل على حواجز الجيش المصري، إلى أن يصل العائد إلى فلسطين خالياً إلا من… ملابسه
عشرون دولاراً تكلفة دخول الحمام لقضاء الحاجة، تبدأ القصة من التفاصيل المهينة في حياة أي آدمي. تخيلوا لو أنّ مطعماً كان يقدم هذه «الخدمة» بذلك السعر! لكنه ليس مطعماً؛ إنه مطار القاهرة، بفرعيه القديم والجديد، حيث كانت تحط الطائرات المحملة مطلع الأسبوع الجاري، بمئات الفلسطينيين ممن أُطلق عليهم لقب «العالقين»، كي يعبروا إلى غزة عبر «حافلات الترحيل» إلى حيث يجب «ألا يحلُموا»، أو وفق عبارة أحد الضباط المصريين: «انتا لسه عايز تسافر؟».
شهادات عدّة جمعتها «الأخبار» من المسافرين الفلسطينيين الذين حظوا بـ«كرم» الأمن المصري أيام السبت والأحد والاثنين من هذا الأسبوع، وذلك بعدما فُتح معبر رفح الذي كان مغلقاً ــ في عادة صارت هي القاعدة ــ جزئياً وباتجاه واحد، وزاد عليها الثلاثاء بنصف يوم عمل بدأ في العاشرة صباحاً وانتهى الخامسة مساءً، وهي الساعات التي كانت «مكرمة» أولية رافقت اتصالات جهاز «المخابرات المصرية» لتهنئة إسماعيل هنية بفوزه برئاسة مكتب حركة «حماس».
كل حاجز يسرق أغراضاً محدودة ليترك للحاجز الذي بعده حصته
كلّ من تحدثوا إلى «الأخبار» في هذا التقرير اشترطوا إخفاء أسمائهم، فهم قد يتحملون سرقتهم وإهانتهم على أيدي جنود مصريين عياناً في وضح النهار، على أن يصيروا يوماً ما على قوائم «الممنوعين من السفر»، لأن «الخوف سيد الموقف» دوماً في العلاقة مع المصريين. بداية رحلة «السرقة والنهب» كانت في المطار، حيث الخطوة الأولى لعودة العالقين. يقول أحدهم ساخراً إن بعض «إيتكيت» التعامل في المطار ووجود كاميرات مراقبة وهواتف محمولة يمكن رفعها بلا قيود (مع احتمالية تسريب أي تصوير لاحقاً)، هي من الأسباب التي منعت جنوداً وضباطاً هناك من فتح حقائبنا وسرقة ما فيها مثل ما فعل الذين على الحواجز، فيقتصر الأمر على الرشى من أجل كل شيء: بدءاً من دخول الحمام حتى طلب الصلاة، وصولاً إلى تيسير المعاملات ولحاق «حافلة الترحيل».
بعد ذلك، تبدأ رحلة العودة المريرة، إذ صارت الطريق من القاهرة إلى رفح المصرية تحتاج 48 ساعة بدلاً من ثماني ساعات. أكثر من سبعة حواجز على الطريق الدولية في سيناء يُهان عليها الفلسطينيون، ويتطلب التفتيش على كل واحد منها ما بين ربع ساعة إلى ساعتين، وأسوأها حاجزا جرادة، ثم الرّيسة الذي يسبق معبر رفح من الطرف المصري بعشرات الكيلومترات.
على هذه الحواجز، يتناوب جنود وضباط على السرقة، فلا يسرق حاجز واحد ما لدى المسافرين، إنما يترك للذي بعده ما تمكن سرقته. في السابق، كان الأمر يقتصر على مصادرة السجائر و«معسل الأرجيلة»، باعتبار أن «القانون»، الذي يجب أن يُنفذ في مطار القاهرة أو قاعة المعبر نفسه، لا يسمح بأكثر من «كروزين» دخان، أو كيلو «معسّل»، لكل مسافر. لكن هذه المرة، باتت السرقات تطاول كل شيء «يستحْليه» الجنود: من الذهب إلى الهواتف والأجهزة المحمولة فالحلويات والعطور وكذلك حقائب النساء وألعاب الأطفال!
وكانت «الأخبار» قد وصلتها شكاوى شبيهة في وقت سابق (راجع العدد ٣٠٦٣ في ٢١ كانون الأول ٢٠١٦)، لكن منذ ذلك الوقت وما بعده، لم يجد الموضوع صدى إعلامياً عربياً، فضلاً عن أن يكون له تداول في المواقع والصحف المصرية، بل إن مصادر أمنية مصرية تحدثت إليها «الأخبار»، قالت إن من «الطبيعي» أن يتصرف الجنود الذين يشعرون بالخطر بمثل هذه الطريقة، نافية أن تكون التجاوزات تتعدى حدود بعض المصادرات.
بعيداً عن مسألة الانضباط العسكري، وكيف يسير القانون على مزاج جنود أو ضباط، يتبدى التحريض الإعلامي المصري على غزة، رغم توقفه، بنتائجه وآثاره البعيدة المدى، على الجنود المصريين، بالترافق مع الإهانة المتواصلة طوال الطريق، وصولاً إلى بوابات المعبر من الجهة المصرية. هناك، على غير عادة، قررت الإدارة أن تترك الواصلين المتأخرين بسبب الحواجز من عائلات ومسافرين فرادى يبيتون ليلتهم على بوابة المعبر دون إدخالهم إلى صالاته غير المجهزة أصلاً، وذلك في طريق صحراوية معروفة بالخطر الموجود فيها بسبب اعتداءات تنظيم «ولاية سيناء» الإرهابي، فضلاً عن البرد الذي يستمر حتى فصل الربيع، خاصة في الليل وقبيل الفجر. أما من يسمح لهم بالدخول إلى تلك الصالات، فعليهم أيضاً دفع رشوة، وعندما يسأل الناس الجنود عن السبب، يكون الرد فقط: «هذه تعليمات»!
الصدمة الأخيرة التي تلقاها «العالقون» هي إعلان إدارة المعبر أن ثمة غرامة مالية على من كان ينتظر في مصر حتى فتح المعبر. هؤلاء، الذين لم تعطهم السلطات المصرية أي نوع من الإقامة المؤقتة لأنه لا موجب لذلك (دراسة أو عمل)، وبقوا عالقين غصباً عن إرادتهم بسبب إغلاق السلطات نفسها معبر بلادهم، صار واجباً عليهم دفع مبالغ عن «إقامتهم المخالفة» داخل «المحروسة». وكانت المبالغ تراوح ما بين ألفين حتى خمسة آلاف جنيه بالحد الأدنى عن كل شخص.
أحد المسافرين تعرّض لما هو أسوأ من كل هذه السيناريوات، إذ بعد وصوله مطار القاهرة صباح الاثنين، أبلغوه بأن «حافلة الترحيل» التي يسلم فيها جواز سفره ويمنع من التحرك إلا عبرها، انطلقت قبل وصوله بعشر دقائق، ما يعني أن عليهم ترحيله بسيارة شرطة خاصة، وعليه الدفع من أجل ذلك. وبعد رحلة تجاوزت عشر ساعات، وصل المعبر قبيل إغلاقه بنصف ساعة (نحو السادسة مساء)، ليقرر الجنود في إدارة المعبر أنه انتهى الوقت، وأن عليه العودة إلى القاهرة ثم ترحيله إلى البلد الأوروبي الذي كان قد قدم منه. ورغم أنه أكد لهم مراراً أن المعبر سيعمل في اليوم التالي (الثلاثاء)، كما يفيد لـ«الأخبار»، فإنهم رفضوا أخذ روايته، مع أنهم على تواصل مع إدارة المعبر، وقرروا ترحيله لأنه لم يدفع. أكثر من ذلك، صودر ما معه من مال جبراً وحُجزت به تذكرة، فيما أُبلغت خطوط الطيران أنه لم يكن يحمل أموالاً وأن مطار القاهرة حجز له التذكرة، وهو ما أخضعه لتحقيق في البلد الذي عاد إليه، رغم أن المعبر كان مفتوحاً في ذلك اليوم!
قبل ذلك بيومين، كانت شركة «مصر للطيران» قد تراجعت عن قرارها منع من هم أقل من 45 عاماً من الفلسطينيين العالقين في أنحاء العالم من العودة إلى غزة على متن خطوطها (راجع العدد ٣١٦٩ في ٦ أيار)، كما أخبرت بذلك المطارات الدولية، مع ما لهذا القرار من تشتيت للعائلات وحرمانها العودة إلى غزة. وكان احتجاج الشركة يتعلق بخسائر مالية نتيجة إجبارها على ترحيل مسافرين فلسطينيين بدعوى أنهم لا يحملون ثمن تذاكرهم، وهو ما عاد وتبين أنه مرتبط بأسباب أمنية تراجعت عنها القاهرة، وفق مصادر.
كل هذه الشهادات المتقاطعة والحالات المتكررة للسرقة والإهانة تُظهر أن جنوداً وضباطاً مصريين يواصلون من تلقاء أنفسهم ــ على الأقل ــ سياسة خنق غزة رغم كل ما يحكى عن «انفتاح» أخير في العلاقة بين «حماس» ومصر، وذلك في استكمال لدور الشرطي الذي تقوم به القاهرة على الحدود مع غزة، فوق الأرض أو تحتها.
(الاخبار)