بن سلمان يقدم أوراق تتويجه كملك قادم عبد الباري عطوان
لا نبالغ اذا قلنا ان المقابلة التلفزيونية التي اجراها الزميل داوود الشريان مع الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد وزير الدفاع السعودي، وجرى بثها مساء الثلاثاء، هي من اهم المقابلات في تاريخ المملكة العربية السعودية، ان لم يكن أهمها على الاطلاق، ليس بسبب ما ورد فيها من أجوبة ومعلومات وردود، وانما أيضا بسبب معانيها ودلالاتها السياسية المحلية والإقليمية والدولية .
الأمير محمد بن سلمان لم يكن يتحدث في هذه المقابلة كنائب لولي العهد، ولا حتى كولي عهد، وانما كملك متوج على عرش بلاده، فهذه هي المرة الأولى التي تبث هذه المقابلة على مختلف القنوات التلفزيونية السعودية الحكومية والخاصة، بل وتبث في الوقت نفسه على قنوات خليجية، واخرى حليفة مثل قناة “ابو ظبي” مثلا، هذه سابقة لم تحدث مطلقا لأي من ملوك المملكة، ناهيك عن امرائها واولياء عهودها.
اذا انتقلنا الى المضمون، أي المواضيع التي تطرق اليها الأمير محمد بن سلمان، نجد ان الهدف الأساسي من اختيارها، والتركيز على الجوانب الاقتصادية، وشرح أسباب التراجع عن الغاء البدلات لموظفي الدولة بعد اقل من ستة اشهر، هو طمأنة المواطن السعودي، ومحاولة امتصاص نقمة غضب شعبية تتضخم مثل كرة الثلج، نتيجة لسياسات التقشف، والضرائب غير المباشرة، وارتفاع الأسعار، وغلاء المعيشة بالتالي، ونفي الأمير بن سلمان لهذه الأسباب لا يعني مطلقا عدم وجودها.
الأمير بن سلمان كان واثقا من نفسه، حفظ درسه جيدا، استخدم لغة الأرقام، وتوسع في الحديث عن رخاء مستقبلي قادم، مثل القول ان قطاع التعدين في السعودية، من ذهب ونحاس وحديد (غير النفط) تقدر قيمته بحوالي تريليون و300 مليار دولار، وسيتم توظيف الأموال العائدة من بيع 5 بالمئة من اسهم شركة “أرامكو” او اكثر للاستثمار في هذا القطاع، في رسالة للمواطنين تقول ان المملكة ليست على حافة الإفلاس، وان هناك بدائل أخرى للثروة النفطية.
لا نريد ان نخوض في المواضيع الاقتصادية ونكرر الاقوال المشككة عن “رؤية 2030″ التي تحمل اسم الأمير بن سلمان لمستقبل المملكة، فهذا امر متروك للاقتصاديين، ولكن لفتت نظرنا عبارة مهمة وردت في المقابلة، وهي قوله ان العوامل الاقتصادية، وليس السياسية هي التي تحدد السياسة النفطية السعودية، وحجم الإنتاج، وواقع الحال ليس كذلك على الاطلاق.
فالانترنت، وارشيف منظمة أوبك، والصحف الاقتصادية العالمية، حافلة بتصريحات ومواقف قادة المملكة ووزراء نفطها التي تقول عكس ذلك تماما، ففي عام 2014 بداية انهيار أسعار النفط زادت المملكة انتاجها بأكثر من مليون و200 الف برميل يوميا، وعارضت أي تخفيض للإنتاج للحفاظ على الأسعار (كانت 110 دولارات للبرميل)، بهدف احداث حالة شلل في اقتصادي ايران وروسيا، الدولتين الداعمتين لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، كما ان المملكة ودول خليجية أخرى خفضت أسعار النفط عام 1998 الى اقل من عشرة دولارات بإغراق الأسواق بكميات هائلة لخلق تخمة، لافلاس الرئيس صدام حسين ونظامه الذي كان خارجا من حرب ضد ايران استمرت ثماني سنوات دفاعا عن الخليج، مما دفعه الى غزو الكويت الى جانب أسباب أخرى.
الأمير محمد بن سلمان قال ان القوات البرية السعودية تستطيع اجتثاث الحوثيين وحليفهم الرئيس علي عبد الله صالح في أيام لو ارادت، ولكنها تخشى وقوع آلاف القتلى من الجنود السعوديين، وكذلك من المدنيين اليمنيين، وهذا كلام صحيح، لان الخسائر ستكون كبيرة جدا، وستعج المملكة ومدنها ببيوت العزاء، ولكن هذا الا يعني ان طائرات “عاصفة الحزم” وعلى مدى العامين الماضيين قتلت آلاف المدنيين اليمنيين على امل كسر إرادة هؤلاء، واجبارهم على الاستسلام دون ان تفلح، بسبب صمود الشعب اليمني، ولكن الكلفة باهظة إنسانيا، حيث يقف 19 مليون يمني على حافة الجوع، ويموت طفل كل عشر دقائق، حسب إحصاءات الأمم المتحدة، بسبب الحصار والقصف الجوي الكثيف لكل شيء يتحرك في البلاد.
نختلف مع الأمير بن سلمان في قوله ان إطالة امد الحرب في اليمن يصب في مصلحة المملكة، لان الطرف المقابل محاصر ولا تصله أي امدادات، وان كان هذا ينفي كل المقولات التي تؤكد ان ايران تدعم الحوثيين بالسلاح والصواريخ، فإطالة امد الحرب يعني استنزاف مالي وبشري ونفسي للمملكة ودول التحالف العربي التي تدعمها، ومن الأفضل للمملكة ان تتخلى عن هذه النظرية الخاطئة بأسرع وقت ممكن لتقليص الخسائر، وابعاد نفسها ولو جزئيا عن تهم ارتكاب جرائم حرب او جرائم ضد الإنسانية في اليمن، وهي تهم قد تعرضها لعقوبات دولية وتعويضات بمئات المليارات من الدولارات.
النقطة الأخرى اللافتة في الحديث على الصعيد السياسي هي نفي الأمير بن سلمان وجود أي خلافات مع مصر على جزيرتي “تيران” و”صنافير”، وأعاد الأسباب الى “الاعلام الاخونجي”، واكد ان مصير الجزيرتين محسوم لصالح السيادة السعودية، وان “جسر الملك سلمان” سيدخل مرحلة التنفيذ في غضون عامين على الاكثر، وهذه اقوال قد تثير مشاكل للمملكة على صعيدين: الأول مع حركة الاخوان المسلمين وتفرعاتها في مصر والخارج، وحتى في اليمن نفسها، حيث يحارب حزب الإصلاح الاخواني الى جانب المملكة، والثاني مع الاعلام المصري الذي عارض في معظمه تنازل مصر عن الجزيرتين وايد احكاما قضائية تدعم وجهة نظره، ولم يكن في معظمه اخوانيا.
الأمير بن سلمان اغلق كل ابواب الحوار مع ايران، وقال “كيف اتفاهم مع نظام يقوم على أيديولوجية متطرفة منصوص عليها في وصية الامام الخميني وتقول بالسيطرة على العالم الإسلامي ومقدساته ونشر المذهب الجعفري الاثني عشري، وتهيئة البيئة الملائمة لعودة المهدي المنتظر”، وختم حديثه بعبارة خطيرة جدا تقول “لن ننتظر الى ان تأتي المعركة الى السعودية، وسننقل المعركة اليهم في ايران”، فهم يريدون السيطرة على قبلة المسلمين.
نقل المعركة الى ايران يعني قلاقل داخلية وتثوير أقليات عرقية وطائفية (سنية خاصة)، مثل العرب (خوزستان)، والبلوش (جنوب شرق ايران) والآذاريين والاكراد الفيلية، وامدادها بالمال والسلاح على غرار ما حدث ويحدث في سورية والعراق واليمن وقبلها في أفغانستان، ومن يطلق هذا التهديد هو وزير الدفاع، ونجل الملك، وصاحب القرار الرئيسي في المملكة، فهل تريد السعودية فتح جبهة جديدة مع ايران؟ وهل تستطيع تحمل تبعاتها المالية والسياسية، وهي تخوض في الوقت نفسه حروبا في اليمن وسورية؟ وما علاقة هذا التصعيد السعودي بالمشروع الأمريكي بمحاولة إقامة “ناتو إسلامي” يتصدى لإيران، ثم كيف سيكون الرد الإيراني في هذه الحالة؟
مقابلة الأمير محمد بن سلمان هذه مهمة وخطيرة جدا، وكل كلمة وعبارة فيها تحتاج الى تحليل وتأمل، ولكن الأهم في كل ذلك انها تنبيء بتغييرات وشيكة في هياكل الحكم السعودي بدأت بإصدار العاهل السعودي 42 مرسوما ملكيا عينت امراء جدد شباب من المقربين لولي ولي العهد، وقد تكون مقدمة للمرسوم الأهم، وهو تتويج الأمير بن سلمان وليا للعهد وملكا فعليا للسعودية ينتظر لحظة التتويج الرسمية.
السعودية تقف على عتبة تغييرات سياسية وهيكلية غير مسبوقة، وتدخل بشكل متسارع في عهد ولي عهد، او ملك اسمه محمد بن سلمان، الا اذا حدثت معجزة قوية داخلية تخلط الأوراق.. والأيام بيننا.