مقالات مختارة

عن حرب حزيران: يوسي ملمان

 

في 8 أيار/مايو 1967 أثناء نقاش في هيئة الاركان قال رئيس الاستخبارات العسكرية الجنرال اهارون ياريف «الآن يمكننا القول بثقة تامة إن المصريين غير مستعدين للتورط في أي شيء من اجل السوريين… الحديث يدور عن معلومات موثوقة تؤكد التقديرات التي تقول بأن مصر وروسيا تريدان كبح سوريا». وحتى ذلك الحين كان الخوف الاساسي في الجبهة المصرية هو القصف الجوي للمفاعل في ديمونة، الذي قامت فيه اسرائيل في ذلك العام، حسب مصادر أجنبية، بانتاج القنبلة النووية الاولى.

بعد ذلك بشهر بادرت اسرائيل الى حرب الايام الستة، بعد قيام مصر، خلافا لتقديرات ياريف، برئاسة جمال عبد الناصر بمساعدة سوريا، والاتحاد السوفييتي لم يحاول كبحها. هذا التقدير الخاطيء طارد الجنرال ياريف ونغص عليه رغم الانتصار الساحق في الحرب والذي كان ايضا بفضل جهود جمع المعلومات والتقديرات وخدع الاستخبارات العسكرية بقيادته في السنوات الثلاثة التي سبقت حرب الايام الستة.

الخطأ في التقدير تبلور في السنة التي سبقت الحرب على خلفية الصراع الداخلي في قيادة حزب البعث السوري. ففي شباط 1966 قام عدد من الضباط في الحزب بانقلاب داخلي وسيطروا على سوريا. وقد كان الصراع بين «الرجل القوي» صلاح جديد، وبين قائد سلاح الجو حافظ الاسد ورئيس الاركان احمد السويداني. الجماعة التي سيطرت والمتخاصمة داخليا اتبعت سياسة متشددة تجاه اسرائيل وشجعت فتح والتنظيمات الفلسطينية الاخرى للبدء في «حرب التحرير الشعبية». وتجلى ذلك بالدعم وارسال الخلايا عن طريق الاردن لزرع العبوات الناسفة في اسرائيل. هذا الامر أقض مضاجع الاستخبارات العسكرية خلال العام 1966 وحتى نيسان ـ أيار 1967. كما كتب عاموس غلبوع في كتابه «سيد مخابرات: أهراليه ـ الجنرال اهارون ياريف ـ رئيس الاستخبارات العسكرية». وتساءلوا في الاستخبارات لماذا تدير سوريا سياسة حرب التحرير الشعبية، وفي المقابل تظهر الكثير من ضبط النفس على الحدود السورية؟.

لم يكن لدى الاستخبارات العسكرية اجابة على السؤال الهام. صحيح أنه كانت لديها معلومات عن قدرة الجيش السوري وعن تكتيكيه في الحدود، لكن لم تكن معلومات سياسية تساعد حكومة اشكول على بلورة موقف شامل وجوهري. وأحد اسباب ذلك هو أن المصدر الاستخباري الأهم للاستخبارات الاسرائيلية، ايلي كوهين، تم اكتشافه وأعدم في دمشق في أيار 1965.

في ظل غياب سياسة مبلورة انجرت حكومة اسرائيل، بتأثير من رئيس الاركان اسحق رابين والاستخبارات العسكرية الى عدة تكتيكات كان في مركزها النظرية التي صاغها ياريف ـ «يحظر المرور بصمت». وحسب هذه النظرية كان يجب الدخول الى صدام مباشر مع النظام السوري كي يفهم: توقف عن حرب التحرير أو أنك ستتعرض الى حرب شاملة مع اسرائيل تؤدي الى سقوطك.

هكذا بادرت اسرائيل الى عمليات الرد في الاردن (أكبرها في تشرين الثاني/نوفمبر 1966 في قرية السموع في جنوب جبل الخليل)، التي ضعضعت مكانة الملك حسين ودفعته الى احضان جمال عبد الناصر. مثل قصة الشاب الذي قام بقتل والديه، وبعد ذلك بكى بسبب مصيره وقال «أنا يتيم»، هكذا هي اسرائيل التي أسهمت بشكل كبير في اضعاف مكانة الملك حسين (رغم أن ممبعوثيها التقوا سرا مع الحسين مرتين قبل العام 1967) وبدأت تقلق من ضعفه. وبالتوازي شددت تهديداتها العلنية ضد سوريا. وقد وجد ذلك تعبيره في اقوال اشكول حيث قال «الدفتر مفتوح واليد تسجل».

لقد وصلت تهديدات اسرائيل، ليس فقط الى دمشق، بل الى موسكو ايضا. والقيادة السوفييتية قامت بعدد من الخطوات، البعض منها كان مثابة تحذير واضح لاسرائيل بعدم مهاجمة سوريا. وفي المقابل أوصلت لعبد الناصر رسائل من اجل التجند لمساعدة سوريا. باختصار، ليس الاتحاد السوفييتي وحده هو الذي لم يحاول كبح سوريا، بل كان هناك باحثون اعتقدوا أنه ساهم جدا في التصعيد، وقد يكون فعل ذلك بشكل متعمد على خلفية البحر الباردة وتدخل الولايات المتحدة في فيتنام.

الدور السوفييتي

وفيما يتعلق بالاتحاد السوفييتي، تلمست الاستخبارات الاسرائيلية في الظلام. وفقط في مرحلة متأخرة من الازمة، في أيار 1967، طلب ياريف من رئيس قسم البحث التابع له، الجنرال موشيه شلومو غازيت، أن يجدر خبيرا يمكنه تفسير الخطوات السوفييتية. وفي 27 أيار/مايو قال له غازيت: «لدينا شيوعي جدي». الخبير الذي تم احضاره هو يوسف بيرغر بارزيلاي، من مؤسسي الحزب الشيوعي في ارض اسرائيل والذي عاد في العام 1932 الى الاتحاد السوفييتي، وكان يعرف جوزيف ستالين. وقد نجا من حملات التطهير والقتل وهاجر الى اسرائيل في العام 1957. كانت تقديرات بارزيلاي هي أن الاتحاد السوفييتي لن يتدخل في حال اندلاع الحرب بين اسرائيل والدول العربية.

بعد اسبوع من تقديرات ياريف ورابين الخاطئة، التي رأت أن «مصر لن تتورط في حرب ضد اسرائيل»، كان الوضع معاكسا. ففي 14 أيار عشية يوم الاستقلال بدأ عبد الناصر في ادخال قواته الى سيناء وقام بالاخلال باتفاق نزع السلاح الذي تم التوقيع عليه في نهاية حرب 1956. ويُقال في صالح الاستخبارات العسكرية إنه قبل ذلك بيوم، في 13 أيار، حصلت وحدة التنصت 8200 على مقاطع وأنباء حول استعدادات الجيش المصري لعبور قناة السويس. وفي الاستخبارات العسكرية كانوا راضين: هذه المرة على الأقل، الخطأ لن يتكرر.

أثناء فترة الانتظار آمنت الاستخبارات العسكرية بأن متابعة الجيش المصري تثبت ذاتها. وقد تم التوصل الى المعلومات بفضل مبادرة «سنتور»، وهي مبادرة الاستثمار المالي الذي مكّن من شراء التكنولوجيا المتقدمة وزيادة القوى البشرية للتنصت وتحليل ما يحدث في الجيش المصري بشكل عام وفي سلاح الجو بشكل خاص. إن التقاط بث سلاح الجو المصري كان يحدث في أحد المواقع العسكرية في الجنوب، وتم اقامة وحدة في المركز ايضا باسم «شوفار» من اجل تركيز المعلومات وتحليلها وتقديمها للمعنيين.

عمليات استخبارية اخرى ساعدت الجيش في الحرب تمت في القيادة الجنوبية. ضابط الاستخبارات للقيادة كان الجنرال مئير مئير، الذي كان قبل ذلك رئيس مكتب ياريف. وتركزت المعلومات الاستخبارية على فهم العدو واعداد الجيش الاسرائيلي لمحاربته بناء على ذلك. وبسبب ذلك تم اعداد ملفات سيناء التي شملت جمع المعلومات حول مسارات حركة ومواقع وتحصينات الجيش المصري وما أشبه.

الدور الاستخباري           

جزء لا يقل أهمية في التحضيرات الاستخبارية في السنوات التي سبقت الحرب كانت عمليات الخداع التي تهدف الى تضليل المصريين حول خطط الحرب لدى الجيش الاسرائيلي. أعمال الحرب النفسية هذه تمت من خلال النشاطات الميدانية والجواسيس المزدوجين. وقد كان لاسرائيل في تلك الفترة اثنان من هؤلاء الجواسيس على الاقل واللذان كان الشاباك مسؤولا عنهما. احدهما كان فيكتور غريفسكي صحافي هاجر من بولندا بعد أن حصل عام 1956 على الخطاب السري لقائد الحزب الشيوعي السوفييتي في المؤتمر العشرين وقدمه للشاباك. حين جاء الى البلاد حاول ضباط البي.جي.بيه تجنيده. وابلغ غريفسكي الشاباك بذلك فطلب منه ان يلعب لعبة مزدوجة. ومن خلال غريفسكي قدمت اسرائيل للمخابرات السوفييتية معلومات كاذبة ايضا عشية الحرب.

جاسوس آخر كان جمال الرفات والذي جندته المخابرات المصرية ودخل الى اسرائيل كيهودي قادم جديد عام 1955. خلال فترة بسيطة تم كشفه وجعله مزدوجا. وطوال 12 عام قدم للمخابرات المصرية معلومات كاذبة ومضللة حصل عليها من مشغليه في الشاباك والذين تم توجيههم من قبل الاستخبارات العسكرية. كانت ذروة نشاطه عام 1965 حيث أنه وبالتنسيق مع قائد سلاح الجو عيزر وايزمن نقل معلومات عن «خطة الحرب» لاسرائيل. وحسب هذه المعلومات الكاذبة فتبدأ اسرائيل الحرب بالهجوم البري ودور سلاح الجو سيكون فقط الدفاع عن سماء الدولة ومساعدة القوات البرية.

فعليا ان خطة الحرب الحقيقية كانت تعتمد على الهجوم المفاجيء لسلاح الجو ضد المطارات والرادارات في سيناء ومصر. لذلك بدأت الاستخبارات العسكرية وسلاح الجو بعملية تضليل اخرى كان هدفها تضليل مصر حول روتين سلاح الجو.

في النقاشات التي تمت اثناء بلورة خطة الحرب، كان هناك خلاف مع سلاح الجو حول البدء في الصباح الباكر أو فيما بعد. وفي النهاية تقرر أن يتم البدء بعد ذلك الساعة 7:45 لان ضباب الصباح يكون قد توزع وكانت الرؤية جيدة وكان طيارو سلاح الجو المصري منشغلين في وجبة الصباح بمواقعهم بعد أن عادوا من طلعاتهم الصباحية. ومن أجل تعزيز ادراك المصريين بانهم يفهمون روتين سلاح الجو الاسرائيلي خلال فترة الانتظار قامت طائرات التدريب الاسرائيلية بالتحليق كل صباح. «هكذا نعود المصريون على رؤية طائراتنا تحلق كل صباح باتجاه سيناء والاعتقاد بان الحديث هو عن روتين»، كما قال جلبوع في كتابه مقتبسا اقوال دان هداني نائب قائد الاستخبارات في سلاح الجو.

حين خرجت اسرائيل للحرب وحلقت مئات الطائرات في السماء اعتقد المصريون ان الحديث هو عن روتين وليس أمرا حقيقيا. وتأكد ذلك من الوثائق المصرية التي تم الحصول عليها بعد الحرب واتضح منها أن عمليات التضليل والحرب النفسية التي بادرت اليها الاستخبارات العسكرية نجحت وضللت المصريين.

استمرت الاستخبارات العسكرية اثناء فترة الانتظار بتقديراتها الخاطئة. وصلت تقارير ان قوات الجيش المصري تدخل الغاز الى سيناء. وكان الخوف هو ان مصر تنوي استخدام السلاح الكيميائي. مرت ساعات طويلة من القلق الى أن اتضح أن الحديث هو عن غاز من أجل الطبخ. تقدير خاطيء كان لقسم البحث لغازيت في 22 أيار والذي قال ان عبدالناصر لن يأمر باغلاق مضائق تيران رغم ان جيشه دخل الى سيناء. اعتقد ياريف أمرا مختلفا وجادل الباحثين لكنه قبل برأيهم في نهاية المطاف.

في اليوم التالي اتضح ان غازيت والبحث اخطـآ وان ياريف على حق. وبعد ان طرد قوات الامم المتحدة اغلق ناصر المضائق واعلن أنه سيسد طريق السفن الى ميناء ايلات. وفي ذلك اليوم فهم ياريف: «وتخلص من نظرته القائلة بان عبدالناصر حذر ولن يدخل في الحرب طالما أن جيشه ليس جاهزا».

بدأت الاستخبارات العسكرية والجيش في التحضير لتطبيق خطة الحرب وخاصة اقناع المستوى السياسي بعدم التردد المبادرة الى الهجوم المخطط. كان التخوف الاكبر لدى حكومة اشكول هو الرد الامريكي. ادارة لندن جونسون اوصلت لاسرائيل رسائل رسمية تعارض فيها الحرب من قبل اسرائيل (ايضا الرئيس الفرنسي شارل ديغول حذر من ذلك) ووعد بانشاء قوة دولية تقتحم مضائق تيران باتجاه ايلات.

ذهب وزير الخارجية أبا ايبان الى الولايات المتحدة للقاء مسؤولي الادارة الامريكية وسمع ذات الرسالة: لا تبدؤوا بالحرب. لكن اسرائيل فهمت بان الادارة الامريكية لا تنوي فعلا انشاء قوة للمهمة البحرية. والاهم من ذلك قامت الاستخبارات العسكرية بالحصول على رسائل من جهات أجنبية تقول أن ادارة جونسون تتحدث بصوتين. رسميا تعارض الادارة الامريكية الهجوم الاسرائيلي المسبق ولكن في القنوات السرية كانت تظهر استعدادها لذلك واستنتجوا في الاستخبارات العسكرية ان سبب تملص جونسون من ملاقاة ابا ايبان نبع من ذات السبب. لم يرغب رئيس الولايات المتحدة بأن يسأله وزير الخارجية الاسرائيلي بكل وضوح ان كان باستطاعة اسرائيل الخروج الى الحرب كي لا يضطر الى اعطاء اجابة سلبية.

ياريف هو الذي فهم موقف الولايات المتحدة. في 29 ايار وخلال جلسة الحكومة توجه ياريف الى رئيس الموساد يئير عميت وقال له: «مئير أنت مقرب من ريتشارد هيلمس رئيس السي.اي.ايه وهو صديقك الشخصي. وفي حوار شخصي معه تستطيع أن تسمع بالضبط ما يحدث… حاول أن تعرف ماذا سيكون موقفهم في حال بدأنا بالحرب».

وافق اشكول وارسل عميت الى واشنطن. التقى مع هيلمس ومع وزير الدفاع روبرت مكنمارا وخلال اللقاء حصل على مكالمة من جونسون. وكان الانطباع لدى عميت ان الولايات المتحدة لن تعارض الهجوم الاسرائيلي وستقدم الغطاء في حال هدد الاتحاد السوفياتي بالرد. وعند عودته في 3 حزيران/يونيو ابلغ الحكومة التي اصبحت حكومة وحدة وطنية مع تعيين موشيه دايان وزيرا للدفاع وضم حيروت اليها. وفي صبيحة 5 حزيران بدأت الحرب.

معاريف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى