الإنزياح د.بثينة شعبان
حين توفي والداي، وجدت نفسي في عالم آخر، مع أناس أخرين تختلف اهتماماتهم ، وكذلك كلامهم وكلماتهم، فلم يعد أحد ممّن حولي يعرف القمح من الزيوان، أو يعرف الأرض التي تصلح لزراعة القمح من تلك التي تصلح لزراعة اللوز والزيتون، لم يعد أحد يعرف أين يحفر بئراً، وأين يزرع تيناً ورماناً، بينما كان والداي يعرفان ذلك بالفطرة تماماً كما يعرفان اسميهما. حين توفّي والداي لم أعد أعرف متى أذهب إلى التعازي ومع من أشارك في الأفراح، إذ أنهما كانا يمثلان لي منظومة القيم التي لا تخطأ أبداً وليس عليّ سوى أن امتثل لنصائحهما لأكون قادرة على القيام بكلّ واجباتي الإجتماعية دون أن ارتكب خطأ واحداً بحقّ الآخرين أو بحق نفسي. ولكني وبفقدانهما شعرت أنني فقدت معيناً لا ينضب من الخبرة المتوارثة في شتى مجالات الحياة، ومن الحكمة ومن الذوق والآداب الإجتماعية الفطرية التي يمارسها الإنسان منذ نعومة أظفاره دون تكلّف أو مراءاة أو انتظار مكافأة أو شكر من أحد، إذ كانت الأمثال التي تذكرها والدتي في كلّ مناسبة تشكّل مفردات دستور عمل أخلاقي اجتماعي لا يناله الخطأ وكانت تذكر كيف أنها تعلمت هذه الأمثال من أمها وجدتها وقد تعود هذه العملية قروناً إلى خبرات متراكمة عبر الزمن وقيم تسمو مع التجارب، إذا ما تمكن أحد من تتبعها. مع رحيل والداي شعرت أن منظومة كاملة قد انزاحت وبدأت منظومة أخرى في التشكّل واحتلال مكانها، إذ أن ذلك الأسلوب من التعامل والعيش والحكمة أصبح يوصف بأنه أسلوب قديم وأن العصر الحديث وأدوات التواصل الاجتماعي تتطلب عقلاً مختلفاً واسلوباً مختلفاً وقيماً مختلفة. وهنا وقع الخلط بين الشكل والمضمون أو بين الأداة والجوهر. ففي الوقت الذي توصل فيه العلم إلى وسائل تواصل اجتماعية وإلى معرفة تقنية غير مسبوقة إلا أن هذا يحتاج إلى مضمون أصيل ومتجذّر كي تتم الإستفادة منه دون انزياح عميق عن الإيجابي من موروثاتنا وثقافتنا وهويتنا الضاربة في أعماق التاريخ. وهنا بدا التمدّن والتحضّر والحداثة وكأنها النقيض لما ورثناه من قيم وعادات وأسلوب مجتمعي وحكمة وبدأ التنصّل من أجمل ما ورثناه أو حتى دفنه غير مأسوف عليه واستبداله بمظاهر للحداثة استقدمناها من الآخرين دون أن نحاول تغذيتها بمضامين من لدنّا نحن فبقيت عبواتٍ فارغة ً لها شكل الحداثة ولكنها غريبة تماماً عن جذورها وعن الاستخدامات الحقيقية للحداثة والتي انتجت في عالم الغرب تطوراً علمياً هائلاً يصبّ في خدمة سبقهم وتفوقهم في مجالات العلم والمعرفة والتقنيات.
رافق هذا الإنزياح على المستوى المحليّ والإقليمي انزياح آخر على المستوى السياسي الدولي. ففي الوقت الذي كان جيلنا يشعر بالاستقرار في أرضه وبالثقة أن العالم يقوده أناس كبار وأن نبض الشارع العالمي هو دائماً مع الحقّ وضد الظلم والقهر والعدوان وأن العدوان مهما طال لا محال أنه زائل في النهاية، أصبحت هذه المفاهيم اليوم في مهبّ الريح. وبدأ يطالعنا رجال ونساء لا تاريخ لهم ولا إرث ولا مصداقية يتسلقون لقيادة هذه السفينة الإنسانية، وبدت أساليب الحكم خاضعة لمكنات إعلامية قادرة على أن تصوّر الحق باطلاً والباطل حقاً واهتزت نتيجة كل هذا وذاك الدعائم الأساسية التي كان الجميع يتكأ عليها في التخطيط لحياته وتحركاته وعلاقاته. ما يحدث اليوم في عالم السياسة وفي العالم الغربي تحديداً يكاد لا يصدّق أبداً. ففي الوقت الذي كان الباحثون يسعون إلى اقتباس ما قاله رئيس أمريكي أو نائب رئيس نرى اليوم أقوال وقرارات الرئيس الأميركي تستخدم للضحك والترويح عن النفس. وكذلك هو الحال في عالمنا العربي، وفي الوقت الذي كان العالم ينتظر انتخابات فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا ليرى من هذه هي الشخصية الفذة التي ستقود امبراطورية آفلة أصبحنا اليوم نشاهد أساليب ملتوية في إيصال السياسيين المتعاطفين مع الرأسمالية والحروب، أقرب إلى الخيال العلمي منها إلى الواقع. لقد أصبحت ما تسمى “الدولة العميقة” أي دولة المخابرات السرية المتحكمة بالإعلام والمال، اليوم هي الدولة الوحيدة في الغرب وكأنه انتهى عصر الديمقراطية والليبرالية والعلمانية وكأنه انتهى عصر السياسيين العظماء لتأخذ أجهزة المخابرات السرية الدور الوحيد في تشكيل الحكومات وتشكّل العالم.
لا عجب إذاً اليوم إذا قال قائل كأننا نشهد نهاية التاريخ. قد نكون اليوم نشهد نهاية التاريخ الذي ألفناه وعايشناه وأحببناه وبداية تاريخ جديد سنترك للأجيال القادمة الحكم عليه. أما شعورنا الأكيد فهو أننا نعيش في غربة اليوم عن كلّ ما تعلمناه وآمنا به والعاصفة عاتية وشاملة ولا مردّ لها ولا خيار سوى أن نستمرّ في العمل إلى أن نرى متى ستنحسر هذه العاصفة وكيف وأيّ عالم سوف تخلّف وراءها.
انتهى