إضراب الحرية… ماء وملح وكرامة- معين الطاهر
للملح والماء دور مهم في استمرار إضراب الأسرى العرب في المعتقلات الصهيونية ونجاحه، فهما كل ما يتناولونه من طعام وشراب. وإذا كان شرب الماء مفهومًا لأهميته للجسم البشري، فإنّ الأسرى، عبر إضراباتهم السابقة المتواصلة، أدركوا أهمية الملح في استمرار الإضراب أطول فترة ممكنة، فهو المادة الوحيدة المتاحة لهم في زنازينهم لحماية أمعائهم الخاوية من التعفن. ولذا، فإنّ نجاح أي إضراب يخوضونه يعتمد على قدرتهم على تخزين كميات مقبولة من الملح، يخبئونها في ثنايا الملابس والفراش وشقوق الجدران. ومنذ لحظات الإضراب الأولى، هاجم الجنود الصهيونيون عنابر الأسرى وزنازينهم، بحثًا عن بقايا الملح المخبأ، ما أضاف إليه قيمة رمزية كبرى، كأحد أسلحة المواجهة والتحدّي في الإضراب الكبير عن الطعام .
خارج أسوار السجون استخدم الناشطون وسم “مي وملح”، تعبيرًا عن تضامنهم مع أسرى الحرية، وبادر بعضهم إلى الدعوة للتضامن مع الأسرى، عبر تخصيص يومٍ لا يتناول فيه المتضامنون سوى الماء والملح. وأحسب أنّ في هذه الدعوة معنى رمزياً كبيراً، لمواجهة العفن الذي ينخر مؤسساتنا ومجتمعاتنا وعقولنا، كما يُطهّر الملح أمعاء الأسرى من العفن الناجم عن امتناعهم عن تناول الطعام.
“مي وملح” وكرامة، هي ما يسعى إليه الأسرى في إضرابهم الذي يحاول تحريك المياه الراكدة من حولهم، والتي يتجاهل المبحرون فيها معاناتهم وآلامهم وحقهم في الحرية، فيما يمعن العدو في استغلال عجز السلطة الفلسطينية، فيزداد صلفًا وقمعًا ورفضًا لأي محاولاتٍ لتحسين ظروف حياتهم داخل المعتقلات، فضلًا عن رفضه الإفراج عنهم، والتوسع في اعتقال مزيدٍ منهم كل يوم، بل وكل ساعة ودقيقة، في ظلّ اتفاقات التنسيق الأمني المبرمة بينه وبين السلطة الفلسطينية.
يدرك الأسير القائد مروان البرغوثي ورفاقه، في سجن هداريم الذي انطلقت منه الشرارة
“لحظة تاريخية أمام الجميع لحمل الشعلة التي أوقدها رفاقنا الأسرى“
الأولى للإضراب، أنّهم يسعون، عبر هذا الإضراب، إلى إحداث تغيير كبير في الساحة الفلسطينية برمتها، تتجاوز مطالبهم المعلنة بتحسين ظروف الاعتقال، فالإهمال الذي يعاني منه الأسرى يمتد إلى مختلف مناحي القضية الفلسطينية، ولولا ضعف السلطة وتنسيقها مع الاحتلال، وتقديمها مسألة بقائها واستمرارها على مسألة مواجهة الاحتلال، والعمل على دحره، ولولا تجاهل المجتمع العربي والدولي لبقاء الاحتلال، وتوسّع المستوطنات، وانتهاء أي أفقٍ يتعلّق بحل “عادل” في المدى المنظور، لولا ذلك كله، لما بقيت معاناة الأسرى حتى يومنا هذا، بل ولما كان هنالك أسرى أصلًا في المعتقلات.
لم يلق قرار مروان ورفاقه ارتياحًا في صفوف كثيرين، بل لعلّه واجه معارضة علنية أو مضمرة، وما يزال، من جهات متعدّدة داخل السلطة الفلسطينية، وأجهزتها الأمنية، وأيضًا بعض الفصائل الفلسطينية. سرّب مروان، المعزول في سجن هداريم، خبر عزمه ورفاقه على إعلان الإضراب قبل أكثر من شهر من الموعد الفعلي له، بهدف إرسال رسالة إلى السلطة والفصائل، بما فيها حركة حماس، عن موعد الإضراب، ليجري الاتصال بمختلف السجون والمعتقلات، والتنسيق بينها للمشاركة في هذا الإضراب. لا شك أن بعضهم فعل ذلك، واستغلّ آخرون هذه الفرصة لثني من يتصلون بهم عن المشاركة في الإضراب والعمل على إفشاله.
في سجن هداريم، حيث مروان البرغوثي وأحمد سعدات وقادة فصائل، صيغت وثيقة الإضراب الرئيسة، ووقّع عليها الجميع، وشاركوا في الإضراب، كما أوضح ذلك بجلاء وصفي قبها، أحد قياديي حركة حماس، والمعتقل إداريًا، وقد أُفرج عنه لانتهاء محكوميته بعد أيام من الإضراب. لكنّ الوضع في المعتقلات الأخرى لم يكن بهذا المستوى وهذه الوتيرة. ما قد يكون عن تخطيط مسبق يقتضي تصعيد الإضراب بالتدريج، والذي يشارك فيه حتى اليوم نحو 1500 أسير من أصل ما يقارب عشرة آلاف. لكنّ هذا الأمر ما عاد مفهومًا بعد مضي أكثر من عشرة أيام على بدء الإضراب، فالموضوع يجب أن يتعدّى إصدار بيانات تأييد فصائلية من خارج المعتقلات، إلى الإعلان بوضوح عن تبنّي الإضراب ومشاركة الأسرى كلهم في السجون، واتخاذ خطواتٍ تصعيديةٍ جماهيريةٍ للتضامن مع المعتقلين بشكل فعال يتجاوز حالة الجلوس في خيم الاعتصام المقامة في المدن. وينطبق هذا على جميع الفصائل والقوى بما فيها حركة حماس.
تأتي أهمية ذلك نتيجة تكرار الحديث عن اتصالاتٍ تجري مع بعض ممثّلي المعتقلات من
“الحديث لا يتعلّق بإنهاء الاستيطان، بل بالحدّ منه، وبقبول السلطة الواقع الراهن والانطلاق منه“
أعضاء نافذين في القيادة الفلسطينية، تطلب من هؤلاء عدم الانضمام إلى الإضراب، بذريعة أنّه يؤثر سلبًا على زيارة الرئيس محمود عباس المرتقبة إلى واشنطن. منطق غريب هذا الذي يعتبر أنّ لإضراب الحرية تأثيرًا سلبيًا على مباحثات عباس – ترامب، بدلًا من أن يُستغل هذا اللقاء للضغط على الجانب الأميركي لتخفيف معاناة الأسرى، بل والإفراج عنهم بلا شروط، كإشارة أولى لجدية الطرف الأميركي في رعاية عملية سلام مزعومة.
لا تفيد الإشارات التي تأتي من واشنطن بذلك، كما التي من السلطة الفلسطينية، فالحديث لا يتعلّق بإنهاء الاستيطان، بل بالحدّ منه، وبقبول السلطة الواقع الراهن والانطلاق منه، في مقابل حزمة اقتصادية تعينها على البقاء فترة أخرى، ومعها يبقى الاحتلال وتتوسّع المستوطنات. وتوحي إشارات السلطة بأنّها تريد تقديم براهين جديدة على انصياعها للشروط الأميركية، ويتمثّل ذلك في إنذارها قطاع غزة وحركة حماس، وتجاهلها إضراب الأسرى، بل والتلويح بالانصياع للطلبات الإسرائيلية المتكرّرة بوقف مخصصاتهم المالية المقرّرة لهم ولأسر الشهداء، باعتبار ذلك تمويلًا للإرهاب.
إضراب الحرية والكرامة الذي يخوضه مروان البرغوثي ورفاقه الأبطال لا ينبغي أن يمرّ مرور الكرام، فهو الشرارة التي ستحرق السهل عبر تحويل التضامن مع الأسرى إلى انتفاضة شعبية عارمة. وهنا، لن يغفر الأسرى، ولا شعوبنا، لكل من يتردد أو يصمت أو يمتنع عن المبادرة بالانخراط في الإضراب ودعمه بالوسائل كلها.
هي لحظة تاريخية أمام الجميع لحمل الشعلة التي أوقدها رفاقنا الأسرى، وتحويلها إلى لهيبٍ يحرق المحتل. فهل نفعل، ونسترد بذلك بعض الكرامة المهدورة، ونُزيل ما علق بنا من عفن أرشدنا الأسرى إلى طريق مقاومته عبر “المي والملح”؟