أين هي السلطة الخفية ؟
غالب قنديل
من المهازل الكاشفة لبؤس الواقع الإعلامي والسياسي ان زاوية رئيسية من أي نقاش أو بحث علمي في السياسة المالية تستغرق في العتم بتواطؤ شبه شامل سياسي وإعلامي لا يجرؤ أي كان على خرقه وحتى من يتناولونه يتحدثون عنه بالترميز وبأصوات واجفة وبرهبة شديدة إلا القليل والنادر من الشخصيات العاملة في الحقل العام فكل شيء مباح إلا قدس أقداس المصارف والشركات المالية والعقارية الكبرى التي تمت هندسة وتكوين النظام المالي على قياسها وفي خدمتها منذ الطائف وبالمديونية المفتوحة بلا سقوف.
ترنح سلسلة الرتب والرواتب مرة جديدة خلافا لما أشيع عن فرص إقرارها بالحد الأدنى الممكن هو المناسبة المحركة للسؤال عن سلطة خفية تمسك بتلابيب اللعبة الاقتصادية والمالية تضم من أطلق عليهم وصف حيتان المال من أصحاب الأرباح الفاحشة والربوية بينما البلد كله في حالة خسارة وتراجع وأولئك هم المرابون الذين يمتصون الدماء في كل المجالات وهم نازعو ملكيات الناس مرة بقوانين التملك العقاري على طريقة سوليدير ومرات بدعوى استيفاء المديونية التي يعطل سدادها الركود الضاغط لسحق الفئات الوسطى والفقيرة وحيث تغلق مئات المؤسسات غير المصرفية والمالية كل سنة بينما تتوسع بعض البنوك وتلتهم المصارف الصغيرة التي ضيقت عليها هوامش الاستمرار طغمة التوحش المستبدة لترث مكانتها وموجوداتها بكل يسر.
هذه السلطة الخفية تعطل لسنوات ما اعتبر حقوقا بديهية لموظفي الدولة وأجرائها وطبعا ليست في دولتنا قواعد متساوية للرتب والرواتب منذ انبلاج العهد الإعماري الذي خرق جميع الأصول وثمة مواقع في الدولة هي في الشكل متكافئة من حيث الدور والصلاحية والمكانة ضمن سلسلة المؤسسات لكن منها وظائف محظية برواتب ومخصصات خيالية ووظائف أخرى بالكاد تنال عشر مثيلاتها من التعويضات المالية والمحظيون في هذه الهيكلية لا يتأثرون بالأزمات وضغوطها لكنهم مشمولون أحيانا بالعطاءات والزيادات بينما يوجد مغبونون فرض عليهم الانتظار والصمت والتهميش.
لم يحاول أي من محققي الصحف والمؤسسات التلفزيونية او الإذاعية بمن فيها التي تبدو ملهوفة لإثارة الفضائح والافتراء أحيانا على أي كان بادعاء مطاردة الحقائق الضائعة او المنسية ان يتقصى أويكشف خيوط الارتباط الوثيق بين النادي السياسي الحاكم والقوة الاقتصادية الوحيدة التي تحصد الأرباح منذ التسعينيات وهي تتركز في المصارف الكبرى التي تتغول بقوة الريع والربى العمومي الذي شرعته حكومات الاقتراض المتورم والتخريب المنهجي للخدمة العامة ولقطاعات الإنتاج وتباهت بالهندسة المالية بعد المضاربات المنظمة ضد الليرة اللبنانية التي اطاحت بحكومة الرئيس الراحل عمر كرامي ما بعد اتفاق الطائف لفتح الطرق امام المشروع الإعماري الذي أكل الأخضر واليابس وأعدم جميع فرص النمو والتوازن الاجتماعي بعد الحرب.
ثمة حاجة ملحة للتعرف على قوائم اعضاء البرلمان وأقاربهم وشركائهم ومحازبيهم الذين ينتمون إلى الأخطبوط المالي والعقاري الكبير الذي يتحكم بالبلد وباقتصاده وهو يمنع بقوة أي تقدم في طريق التصحيح الاجتماعي لتوزيع أعباء الأزمة عبر سياسة ضريبية متوازنة وشرط التوازن ان ترتبط الأعباء الضريبية في توزيعها عمليا بمقدار المداخيل والأرباح التي يتركز جلها في حوزة المصارف الكبرى وأذرعتها العقارية والمالية المتضخمة التي توظف جيوشا من المستشارين وتشمل بخدماتها طوابيرا من السياسيين والمسؤولين واولادهم وأقاربهم بدوافع ليست من نوازع الخير الاجتماعي والسخاء المجاني فلكل قرش تنفقه طغمة المال حساب ومردود وهي بجميع أفرعها شيلوكية الطبع والتفكير والأخلاق تقطع لحوم الناس لتسرتجع قرضا او فائدة على قرض.
شهدنا بعض مظاهر نفوذ تلك السلطة الخفية عند طرح أي مطلب اجتماعي وخصوصا عند النقاش في عدالة توزيع العبء الضريبي او عند استحقاق حسم سندات الدين العام لدى المصارف التي يعمل المستحيل لتأمين تمويلها ويخرج من يلوحون بالويل والثبور ما لم يتم إصدار سندات بالعملات الأجنبية لدفع الفوائد والسندات المستحقة بكل حمية وسرعة أين منها بلادة التعامل مع حقوق الموظفين ومحدودي الدخل وجنون الأسعار والفوضى الشاملة في الأسواق التي تلتهم الزيادات المفترضة قبل ان ينالها أصحابها.
الطغمة النافذة طورت وسائلها وتقنيات عملها عما كانت عليه خلال العقود الخمسة الماضية وهي اليوم أشد دهاء وخبثا لكن إعلامنا المدجن أشد بلاهة وارتهانا وبلادة لا يبحث عن المعلومات المفيدة في تكوين القضايا لتقديمها إلى الرأي العام بل عن الإثارة القابلة للصرف عند الجهات النافذة وفي قلب لعبتها السياسية والمالية التي تتحكم بها تلك السلطة الخفية التي تحدد المسموح والممنوع وهي تتدخل في سياسات الدولة العليا حتى الساعة.