بقلم ناصر قنديل

مشاريع تحمل بذور خيبتها… ولا يصحّ إلا الصحيح

ناصر قنديل

– عندما تستهلك القوى السياسية، دولاً وأحزاباً، فائض قوتها وتعجز عن تحويله قيمة مضافة، أي تحويله تطوراً سياسياً، يبدأ التآكل والهريان في عناصر القوة ويصير النصر الذي يبدو قد تحقق عبئاً على أصحابه، لا يعرفون أين يذهبون به، وقد امتنعوا عن صرفه في عروض سياسية رأوها متدنيّة الأسعار وصارت بعدها أمنيات، حتى تتنازل الأثمان ويصير الثمن المطلوب حفظ ماء الوجه، منعاً لفضيحة الهزيمة. هزيمة سببها العجز عن تحقيق العناوين المرفوعة والأهداف المعلنة. هذه سنّة تاريخية لا يستطيع كثيرون إدراكها لانبهارهم دائماً بمن يملك فائض قوة، ولذعرهم الداخلي من كل صاحب قوة، والانبهار والذعر متكاملان هنا في إنتاج ذيلية فكرية وعجز عن القراءة الصحيحة، حتى عندما تقع الهزيمة يقع هؤلاء المرضى بالذل في تفسيرها نصراً مخفياً مدبّراً ويبحثون للمهزوم وهو يعترف بهزيمته عن نصر لا يراه.

– هذا يعني أمرين، الأول أن القوى التي تفوز في لحظة مواجهة وتقوم بتسييل فائض قوتها العسكري أو المالي أو المعنوي، وتُحرز نصراً تجد نفسها مطالبة بالتواضع في التسريع بتحويل النصر قيمة مضافة أي تحويله إنجازاً سياسياً يلقى شرعية الاعتراف من الخصوم. وهذا هو الأهم، وكل قياس لحدود الممكن وعدم رفع لسقوف المطلوب هو ذكاء استراتيجي سيكتشفه الذين يمانعون بداعي غرور القوة والمكابرة، عندما يختبرون مصير فائض قوتهم، وهو يتآكل وينفقون المزيد من القوة لحمايته وصيانته والتذكير بوجوده، حتى يتحوّل عبئاً يضطرون للتخفّف منه ولو دفعوا ثمناً لذلك. أما الأمر الثاني فهو أن القوى التي تهزم أمام تسييل فائض قوة لا يردّ وتستطيع الصمود وحرمان خصمها من تحويل نصره إنجازاً سياسياً يحوز شرعية اعترافها، تملك بقوة الممانعة هذه أن تحبط النصر وتحوله عبئاً وتدفعه في طريق التآكل، وأن الذكاء الاستراتيجي هنا هو في التفاوض المباشر أو غير المباشر على أثمان مدروسة ومنطقية تحوز شرعية الوسطاء ولا يقبلها الخصم المنتصر حتى تتالى جولات التفاوض وفائض القوة يتآكل ويصير النصر عبئاً وتتنازل العروض حتى بلوغها المكان الذي يحوّل النصر هزيمة، أو يصير التخفف من التورط بذاته هدفاً لمن كان بالأمس منتصراً.

– بقياس هذه المعادلات فقط يمكن فهم معنى تحوّل ما كان في احتلال العراق أميركياً نصراً وصار هزيمة، بفعل غرور القوة من جهة والممانعة الإيرانية السورية لقبول الإملاءات من جهة مقابلة، وفهم كيف تحقق النصر للمقاومة في حرب تموز 2006، بفعل غرور القوة الإسرائيلي ورفع سقوف مستحيلة من جهة وصمود المقاومة عسكرياً وسياسياً بما يحول دون منح أثمان تعوّض العدوان وتمنحه شرف ادعاء النصر، وكذلك يمكن بتطبيق هذه المعادلات فهم احتلال إسرائيل للبنان ونهايته المهينة، حروباً ومعارك كثيرة.

– ما يستدعي التذكير بهذه القوانين والمعادلات ظواهر راهنة نعيشها اليوم من حولنا، تبدو معها لعبة الرهان على فائض القوة تستهلك بريقها وتدخل مراحل التآكل، لعجز أصحابها عن تسييلها قيماً مضافة، أي إنجازات في السياسة تحوز شرعية الخصوم واعترافهم، الأبرز هنا هو التوغل التركي في سورية والحرب السعودية على اليمن، والتلاعب الإسرائيلي في جنوب سورية.

– بلغ التوغل التركي في سورية سقفه الجغرافي، وسقف التغطية السياسية الدولية، وبات كل تمسك ببقائه سبباً لتحوّله عبئاً على أصحابه، لأنه مبرر موضوعي لمزيد من تجذر الحالة الكردية وخصوصيتها التي تحظى بمقدار أكبر من الشرعية لانتسابها لمواطنين سوريين وتحظى بدعم دولي يفوق ما يحظى به الدور التركي، وتشكل حاجة للأميركيين لتغطية فريق سوري له خصوصية لوجودهم في جغرافيا سورية لا يملك التركي تعويضهم عنها، فهو احتلال أجنبي مثلهم، والاحتلال لا يغطّي احتلالاً.

– الحرب السعودية على اليمن، وقد أضاعت فرصة التسوية بعد دخول عدن لا تزال تمضي من تورّط إلى تورّط بلا قدرة على امتلاك لحظة الانخراط في التسوية حتى صارت عبئاً. والعبء كلما مضى الزمن يكبر ويصير القبول بالثمن الذي كان ممكناً أصعب، ومواصلة الحصول عليه غير مؤكدة.

– العبث الإسرائيلي في جنوب سورية بوهم بناء حزام أمني بلغ سقف الرهان ودخل مرحلة التآكل وصار على الإسرائيلي التحفف منه، بقدر ما يراه سبباً لشرعية تجذّر المقاومة في تلك المنطقة، سواء المقاومة بفريقها اللبناني الأهم الذي يمثله حزب الله كحليف لسورية أو المقاومة بمعناها الأشمل كحالة شعبية سورية لمواجهة إسرائيل . فوضع تركيا و إسرائيل متشابه لجهة الحاجة للإسراع بقبول اعتبار عودة الدولة السورية لتسلّم أراضيها والانكفاء أمامها كمشروع، بلا أثمان، اقل الخسائر التي يمكن دفعها، قبل أن تتجذّر حالات تصيب كل منهما في العمق أكثر، ولو لم تكن تعبيراً عن رغبة سورية، ليس من ضمنها كانتون كردي في الشمال، ولا ضمن مشروع المقاومة الذي ليس ضمنه اقتطاع جزء من الجغرافيا السورية لحسابه.

– في لحظات التاريخ الحاسمة يصير الممكن والواقعي هو الذي كان اسمه الأصح، وكان مستبعَد الحصول بفعل فوارق القوة. يصح هذا في الحروب كما في السياسة، ويصير السؤال عن مدى قبول قوى كبرى بهزائم أمام قوى صغيرة، مجرد جهل بقواعد صناعة التاريخ وحركته، وانتقاماته المفاجئة بلا إنذار، لعنة سورية تلاحق التركي و الإسرائيلي ، هذا هو معناها.

– لبنانياً، يمكن الإفادة من فهم هذه المعادلات في فهم الاستعصاء السياسي الذي يعيشه البلد، فكل مشروع يحقق ربحاً طائفياً في كفة ينتج رد فعل يوازيه في كفة موازية، وفي زمن يقظة العصبيات الطائفية يتعقد أكثر البحث عن التوفيق بين تلبية التطلع للحفاظ على أحجام كانت، والسعي لتحقيق أحجام يفترض أن تكون، ويصير القانون الممكن هو القانون الذي كان اسمه الأصح ويستبعد كثيرون حصوله على القبول ممن يملكون قدرة الرفض. قد لا يبدو هذا الكلام واقعياً الآن، لكنه قد يصير كذلك بعد حين، تحت شعار عودوا إلى المادة 22 من الدستور، فهي الأقل كلفة ولو ببعض من الغموض في توقع النتائج.

(الاخبار)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى