باسل الأعرج.. جدلية المثقف والفدائي- معين الطاهر
ارتقى باسل الأعرج شهيدًا، بعد أن رفض، بإصرار وتصميم، أن يجيبنا على أسئلتنا العالقة عن معنى الشهادة، على الرغم من تأكيده أنّه قد وصل إلى هذا اليقين، وأنّه ماضٍ في طريقه إليه بثبات وتصميم، أمّا نحن “الأحياء” كما يصفنا، في وصيته القصيرة والبليغة، والتي عُثر عليها بين أوراقه وفي ثنايا كتبه، في غرفته التي استشهد فيها، بعد أن أطلق آخر رصاصة في جعبته، فإنّه يحثّنا على البحث عن إجاباتٍ على أسئلتنا، رافضًا أن يقدّم لنا أي إجابة، على الرغم من وصوله إلى يقينه المطلق. فهو، وربما من منظور صوفي، قد ارتقى إلى مستوىً آخر قد لا نلمسه نحن “الأحياء”، أو نصل إليه إلّا عبر بحثنا ومكابدتنا نحن للوصول إلى إجاباتنا، أو لعلّه وكما كان شأنه بيننا يحثّنا على مزيد من البحث والتعلّم المقرون بالاشتباك مع العدو، والذي هو شرط يفترض وجوده عند وصف أي شخصٍ بالمثقف في تعريفه الجديد، وإلهام لمعنى المثقف والثقافة، فالمثقف هو المشتبك، وإذا لم تكن مشتبكًا فلا معنى لثقافتك .
استشهاد باسل تعبير أصيل عن مفهوم المثقف، وربطه للنظرية بالممارسة العملية، وعن دور المثقف بالواقع العملي لشعبه بعيدًا من برجه العاج، ولعلّ القول يصدق هنا أنّ استشهاد باسل هو موت لعشرات من مدّعي الثقافة المنفصلة عن الواقع، والمتماهية مع السلطة والاحتلال أو الفساد والطغيان، وهو إعلان حياة متجددة وأبدية، لكل مثقف ثوري شهيد، فالثوريون لا يموتون.
التقيتُ باسل قبل أعوام في منزلي في عمّان. جاء مسكونًا بعشرات الأسئلة التي يبحث عن إجاباتها، وفي ذهنه هاجس واحد، دراسة تجربة الثورة الفلسطينية، ومعرفة مكامن قوتها ونقاط ضعفها. أراد أن يعرف منّي، ومن غيري، بعضًا من تجربة عشناها، لعلّه يعثر على إجابة قد تولّد أسئلة أخرى، وامتد الحديث ساعات. حدّثني عن تعلّقه بتجربة ثوار التوباماروس
(مجموعة من مقاتلي حرب عصابات المدن نشطت في الستينيات في أميركا الجنوبية)، وتداولنا في الوضع الفلسطيني والعربي والدولي اتفقنا، واختلفنا، لنتفق من جديد. اتفقنا على أولوية الصراع ضد العدو الصهيوني، لكن في حلق باسل كان ثمّة غصة. كان يتألم وهو يتحدّث عن التنسيق الأمني، ويروي بمرارة كيف تتكوّن طبقة من بني جلدتنا تتعاون مع الاحتلال، وتستفيد منه، ويتساءل عن الموقف من ذلك، يجمح أحيانًا ويهدأ أحيانًا أخرى، لتعود البوصلة من جديد نحو العدو الصهيوني.
تابعتُ باسل ونشاطاته عن بعد، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأدهشتني أفكاره وإبداعاته. شاهدتُ كيف أعدّ وبحث فكرة باص 47، محاكيًا باصات فلسطين في ذلك العام، والتي كان مكتوبًا عليها أسماء المدن الفلسطينية كخطوط لرحلاتها، إضافة إلى بغداد وعمان والشام وبيروت، وكيف تحوّلت الفكرة إلى حقيقة، وإلى أشرطة مصورة، وإلى رحلات للشباب ينظمها باسل إلى مواقع المعارك والمواجهات، وأماكن اشتعال الثورة الفلسطينية في عصورها المختلفة، ويقضي وقته دليلًا وشارحًا ومفسرًا وقائدًا ملهمًا. كما لمحت صورته في الصفوف الأولى في تظاهرات الضفة الرافضة للاحتلال والاستيطان والمطالبة بالحرية ودحر الاحتلال.
قبل شهور، أعلن وزير الدفاع الصهيوني، أفيغدور ليبرمان، أنّ ما دعاه “الحراك الشبابي” حركة إرهابية، واعتبر قبض أجهزة التنسيق الأمني على باسل وصحبه إنجازًا عظيمًا. وبالأمس، أعلن ناطق باسم الجيش الصهيوني استشهاد باسل، بوصفه القائد العسكري لخلايا الحراك الشبابي، ووصف هذا الحراك باعتباره عابرًا للفصائل.
اكتوى باسل بنيران السلطة الفلسطينية، وجُرح في مواجهة شرطتها عام 2012 عندما تصدّى ورفاقه لمنع زيارة وزير الدفاع الصهيوني الأسبق، شاؤول موفاز، المقاطعة مقرّ رئاسة السلطة في رام الله، واعتقل ستة أشهر، أخيرا، بتهمة حيازة سلاح على يد أجهزة التنسيق الأمني، ولم يُطلق ورفاقه إلّا بعد إضراب عن الطعام، وبعد إخفاق هذه الأجهزة، على الرغم من التعذيب والاعتقال، في انتزاع أي اعتراف منه.
لم يعد باسل بعد خروجه من سجن السلطة إلى منزله في قرية الولجة قرب بيت لحم والمواجه
لمستوطنة جيلو. قدّر أنّ مسرحية اعتقاله لم تكتمل فصولها، وأنّ إطلاقه من سجن السلطة تمهيد لاعتقاله على يد العدو، وهو ما حدث مع بعض رفاقه، فاختار أن يعيش مطاردًا متنكرًا بشخصية إبراهيم حجي، الباحث السويدي من أصول مغربية الذي ينجز بحثًا في الاقتصاد، ويتحدّث إنكليزية ركيكة. ليبدأ مرحلة توباماروس فلسطيني.
ترى، بماذا كان يفكّر باسل، وهو في سجون السلطة الفلسطينية، ويرزح تحت سياط جلاديها؟ أو وهو يواجه القوات الخاصة الصهيونية التي اقتحمت مكان إقامته في قلب رام الله، بعد وشاية عميل، أو تقرير للتنسيق الأمني، هل تذكّر حديثًا سابقًا لنا حولها؟ أو هل ندم، أم ازداد قناعة بأنّ الأهم ضرب رأس الأفعى الصهيونية، وحينها سيموت ذيلها؟