مقالات مختارة

من أعاق ويعيق التكامل القومي العربي ؟ عوني فرسخ

 

في مطلع تسعينيات القرن الماضي برز بين نشطاء التوجه القومي العربي من رفعوا شعار “مصالحة الدولة القطرية ” مدعين بذلك تجديدهم الفكر القومي العربي ، وقد زعموا حينها أن قادة الفكر والعمل القومي العربي في دعوتهم للوحدة أوائل الخمسينيات عادوا الدولة القطرية العربية معتبرينها صناعة استعمارية ، ومتجاهلين أن ذلك لا يصدق بالنسبة لجميع الأقطار العربية كالدولة في مصر والمغرب . وكان بين رافعي الشعار ، وما زال ، من غالوا لدرجة اتهام الفكر والعمل القومي العربي بدعواه للوحدة عمل دون قصد في إعاقة التكامل بين دول الجامعة العربية .

وفي بيان أن شعار المصالحة ، كما ادعاء إعاقة العمل والفكر القومي العربي لتكامل أقطار الجامعة ليس لهما سند تاريخي ولا يعبران عن قراءة واقعية لما كان في الماضي ولا هو كائن في الحاضر . وفي البرهنة على صحة ما ندعي نذكر بالحقائق التالية :-

1 – في الاجتماع الذي عقده ممثلو الدول العربية في الاسكندرية سنة 1943 للبحث في مقترح وزير الخارجية البريطاني إيدن لاقامة شكل من التعاون بين الدول العربية اقترح الوفد السوري إقامة حكومة مركزية عربية فإن تعذر ذلك فإن الحكومة السورية ترضى بأي اتحاد أو اتفاق أو حلف . فيما تقدم موفد الحكومة اللبنانية بمذكرة تؤكد حرص الحكومة اللبنانية على “المحافظة على استقلال لبنان وضمان سيادته ” .

وفي المباحثات التالية احتدم الجدل حول مشاركة موسى العلمي ممثلا لفلسطين ، حيث اعترض على ذلك وزير خارجية لبنان هنري فرعون بحجة أن فلسطين غير مستقلة . وكان مصطفى النحاس ، رئيس وزراء مصر حينها ، قد طلب من العلمي ، الذي كان يحمل تفويضا من الأحزاب الفلسطينية ، أن يذهب للسفارة البريطانية لأخذ موافقة الجنرال كلايتون ، ممثل المخابرات البريطانية في المشرق العربي على مشاركته . وعاد يحمل قصاصة بخط كلايتون تنص ” : لا مانع من أن يمثل السيد العلمي فلسطين ، بشرط أن يكون مراقبا ليس له حق التصويت ” .

وعندما اقترح رئيس وزراء سورية فارس الخوري في المباحثات النهائية بالقاهرة في مارس / آذار 1945 تنسيق التشريع وتوحيده بين الدول العربية

عارضه ممثلون

لمصر والعراق ، بحيث انتهت آخر محاولات الوحدة ، وبالتالي جاء ميثاق الجامعة يكرس التجزئة ولا يؤسس

لمشروع وحدوي في المستقبل

.

2 – لم يُعاد أصحاب التوجه القومي الوحدوي يوما الدولة القطرية العربية بالمطلق ، بل وقفوا مدافعين عن الدولة الوطنية تامة الإستقلال كاملة الحرية في مواجهة القوى التابعة التي تستهدفها . والمثال الأول

:

الموقف من الدولة السورية التي كانت قد ظفرت سنة 1943 باستقلال تام دون ارتباط بأي معاهدة تحد من حريتها . وعليه استهدفت بمشروعي “الهلال الخصيب” و “سورية الكبرى” ، ووجد بين القوى السياسية السورية من يؤيد أحد المشروعين . الأمر الذي تصدت له القوى الملتزمة بالفكر القومي والوطني دفاعا عن استقلال سورية ونظامها الجمهوري .

3 – أقر مجلس جامعة الدول العربية في 13/5/1950 “معاهدة الضمان الجماعي والتعاون الاقتصادي” وحيث بدت خطوة

جريئة على

طريق التكامل العربي ومحاولة الخروج من حالة التشرذم القائمة ، إذ نصت على إقامة هيئات تنفيذية .

وخشية أن تشكل إدارة فاعلة في مواجهة إسرائيل ، التقت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على إصدار “البيان الثلاثي ” في 25/5/1950 بتحديد تصدير السلاح للمنطقة . ومع أن أنظمة الحكم العربية كانت أقرب لأن تعتبر شبه ليبرالية إلا أنه لم يجر تحقيق أي خطوة تكاملية بين الأقطار الموقعة على المعاهدة .

4 – حين اتضح التوجه القومي للنظام المصري بقيادة عبدالناصر بتصديه لحلف بغداد في ربيع 1955 التفت الجماهير العربية بقيادة القوى قومية التوجه والالتزام حول مصر ، بإعتبارها “الاقليم القاعدة ” العربي المؤهل للعمل على تحرير بقية الأقطار العربية ووضعها على طريق التكامل والوحدة والتحرر السياسي والاقتصادي .

5 – حين واجهت سورية عام 1957 تحديات نظامي نوري السعيد وعدنان مندريس عضوي حلف بغداد ، فيما تحول لبنان في عهد كميل شمعون ليكون مركز تآمر عملاء حلف بغداد ومشروع ايزنهاور على النظام السوري ، رفع حزب البعث في 17/4/1956 شعار الاتحاد مع مصر لحماية الدولة السورية . فالتفت الجماهير السورية حول الشعار مُشكلة ضغطا شعبيا على النظام بمصر .

وبعد موافقة أحزاب سورية وحركاتها السياسية ، عدا الحزب الشيوعي ، على شرطي حل الأحزاب وامتناع الجيش عن التدخل في السياسة ، وأقر الشعب السوري بما يشبه الإجماع في استفتاء عام غير مطعون بشرعيته على ما كان قد اتفق عليه الضباط السوريون مع عبد الناصر في مباحثات القاهرة ، وأقر الإتفاق مجلسا الوزراء والنواب السوريان . قامت الجمهورية العربية المتحدة في 22/2/1958 . ولما كانت الدولة الأقل مساحة وإمكانات ودور اقليمي هي التي فرضت الوحدة ما يدل على إنتفاء الضغط والإكراه في إقامة دولة الوحدة ، وعلى أنها قامت وفق ما انتهى إليه الفكر السياسي من اعتماد الإستفتاء الشعبي سبيلا ديمقراطيا لإقامة الوحدة والإتحاد .

6 – حين أعلن الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم ضم دولة الكويت بعيد إعلان استقلالها ، تصدى له عبدالناصر رافضا التعدي على حرية شعب الكويت في تقرير مصيره ، وحائلا دون استغلال بريطانيا للأزمة بحجة الدفاع عن استقلال الكويت بينما غايتها الدفاع عن مصالحها في بترول الكويت شريان حياة الاقتصاد البريطاني ، كما ورد في منشور وزع على القوات البريطانية التي أنزلت في الأردن غداة تفجر ثورة 14تموز/ يوليو 1958 في بغداد .

7 –انحسر المد القومي الوحدوي برحيل القائد جمال عبدالناصر في 28/9/1970 . وعلى مدى السنوات الأربعة والأربعين التالية لم تحقق الأنظمة ، وغالبيتها غير قومية ، أي خطوة تكاملية فيما بينها . وذلك نتيجة تفاعل افتقار معظمها لحرية الإرادة والقرار ، وشيوع الخطاب القطري المغالى في قطريته ، ولكون الغالبية العظمى من رجال وسيدات الأعمال مرتبطين مصلحيا بالخارج ، بدليل أن التجارة البينية العربية لا تجاوز 10 % من مجمل تجارة أي قطر عربي . فضلا عن أن المقارنة بالاتحاد الأوروبي غير واقعية لكون دوله جميعها مستقلة الإرادة والقرار وإن كانت تسير في الركب الأمريكي .

     مما سبق يتضح عدم تاريخية شعار “مصالحة الدولة القطرية ” ، ولا موضوعية الزعم بأن التوجه الوحدوي أواسط القرن الماضي أعاق التكامل العربي ، ولا مصداقية الزعم بأن في القولين تجديد للفكر القومي العربي . كما تتضح الشروط الموضوعية للتكامل العربي الذي فيه استعادة الأمة العربية لدورها الإقليمي وتجاوز واقع التجزئة والتخلف والتبعية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى