لبنان في الحلقة المفرغة
غالب قنديل
تتلاحق الأخبار والمعلومات والتسريبات والإعلانات السياسية عن بقاء قانون الستين لإجراء الانتخابات النيابية على اساسه خلال الأشهر القادمة رغم كل ما قيل من قبل عن دراسة قوانين جديدة ووجود مشاريع وتصورات عن إقامة نظام انتخابي مختلط يجمع بين القاعدتين الأكثرية والنسبية للانتخاب ورغم كل ما حمله انتخاب الرئيس العماد ميشال عون من دفع لفكرة التغيير والاصلاح في الجمهورية التي تكلست وتحجرت على قواعد هيمنة طبقة سياسية لديها كمية كبيرة من المصالح التي تشكلت على اساس النظام الطائفي والهيمنة الطائفية واحتكار تمثيل الطوائف وفقا للنظام الانتخابي الأكثري الذي اعتمد في لبنان وعطلت في ظله جميع الافكار الاصلاحية التي تضمنها ميثاق الطائف وأكثر المتشدقين في تطبيق الطائف يقفون حجر عثرة في وجه التغييرات والاصلاحات التي نص عليها والمتضمنة علنا الانتقال الى اعتماد النظام النسبي واقامة مجلسين، مجلس للشيوخ ومجلس للنواب في المرحلة الانتقالية الى ان تلغى الطائفية السياسية نهائيا، والغاء الطائفية السياسية تحول بفضل الطبقة الحاكمة الى حلم بعيد لا يبحث فيه احد وكلما طرحت اقتراحات للتدرج اليه تم خنقها بموجة مزايدات كبيرة يحاول عبرها الزعماء المتنفذون ان يعطوا مصالحهم الصغيرة صفة الطابع الوجودي لمصالح الطوائف.
المعضلة الأدهى في الواقع اللبناني هي غياب حركة شعبية حقيقية تفكر وتحاسب وتتخذ المواقف والمبادرات ومن الواضح تماما ان اخماد الحركة الشعبية واغراقها في الكثير من المشاكل والهموم اليومية القاتلة وتوزعها على عصبيات الطوائف بفضل نظام سياسي إعلامي محكم شوه العقول وحجر المفاهيم ودفع الناس الى مستويات شديدة التخلف في طريقة التفكير والتفاعل مع الأحداث السياسية هذا كله من إرث النظام الذي أقيم بعد اتفاق الطائف وجدد القسمة الطائفية وعدل بعض ملامحها لتبقى هيمنة الصيغة الطائفية التي قال ميثاق 43 انها مؤقتة والمؤقت في عرف هذا النظام دائم، أبدي، سرمدي، على شفا الحروب الأهلية التي تلوح بها القوى المهيمنة كلما ظهرت بوادر تغيير تتحدى مصالحها الاقتصادية والسياسية وارتباطاتها بالخارج المهيمن غربا وخليجا كقوة قاهرة تغتصب قسما كبيرا من السيادة وتغطي العدوان الصهيوني المستمر الذي رافق لبنان منذ ما سمي عهد الاستقلال ولم يوضع له حد إلا بفضل مقاومة استغرق النظام البائس ليعترف بها عقودا وحتى بعد انتصارها ما يزال بعض أهل هذا النظام لا يوفرون مؤامرة عليها.
شكل عهد الرئيس العماد ميشال عون بارقة أمل كبيرة لدفع عملية الاصلاح والتغيير ومن الواضح ان موضوع قانون الانتخاب هو المهيأ ليكون البصمة الابرز للرئيس الذي ينادي بالتغيير منذ عقود والذي خاض معارك كبرى تحت هذا الشعار وقدم الكثير من الصيغ والطروحات الهادفة لتطوير النظام السياسي اللبناني وجاء الاعتراف بحتمية تغيير ما عبر انتخابه بداية فتحت آفاق الأمل بإمكانية التقدم ولو كان ذلك التقدم محكوما بقيود التسويات والتنازلات المتبادلة طالما تتحصن القوى الرافضة للتغيير بعصبيات الطوائف وتهدد البلاد بحرب أهلية عند كل مفترق يتعلق بمطلب تغييري مهما كان متواضعا فكيف والأمر يتعلق اليوم بالنسبية التي تعني كسر احتكار تمثيل الطوائف وبناء قواعد جديدة في بنية النظام السياسي. تدحرجت تنازلات منطق التغيير تحت شعار التسوية الواقعية من اقرار النسبية الكاملة كمطلب نادت به مجموعة من القوى السياسية الى القبول بمساكنة بين النظامين النسبي والاكثري تحت شعار البدعة التي سموها القانون المختلط وحتى هذا المختلط يتعامل معه بعض النافذين على انه خلط لتقطيع الوقت، خلط بمعنى الكذب والدجل وخلط الاوراق ليكشفوا مؤخرا عن اوراقهم التي هي ابقاء النظام الاكثري الطائفي من غير اي زحزحة حتى لو كانوا يقبلون بزحزحة بعض الخطوط الفاصلة بين الدوائر والمناطق في تقسيمات القانون الانتخابية لا اكثر ولا اقل.
المعضلة الكبرى التي يعيشها لبنان ترتبط بثلاثة ابعاد:
البعد الاول، ان القوى المستفيدة من الصيغة الطائفية ومن احتكار تمثيل الطوائف تتعامل بشراسة في مواجهتها مع أي عملية تغيير وترفض في الواقع منطق التسويات الا اذا كانت تلك التسويات تضمن لها مصالحها وتجدد لها هيمنتها بكل ما تحمله من وقائع الخصخصة والتقاسم التي دفع البلد ثمنها وبالا خطيرا.
البعد الثاني، في مواجهة تلك القوى القوى الشعبية الواقفة خارج النظام ليست شعبية في الواقع بما يكفي لتفرض معادلة جديدة من تحت وقد تحول دعاة التغيير والاصلاح في المجتمع اللبناني من القوى والتجمعات الراديكالية من مختلف المشارب العقائدية الى ظاهرة احتفال تزين المشهد السياسي ولا تملك طاقة جدية على التغيير لان الاستمرار بقوة العادة وتحت اليافطات هو ما يحكم العمل السياسي من غير مراكمة جديدة تتصدى علميا لتفكيك البنى القائمة واطلاق تيار تغيير حقيقي يضم جميع القوى المتضررة من النظام القائم داخل المجتمع والى ان يتم ذلك وتفك هذه العقدة سيبقى الاعتراض على الطائفية وعلى احتكار تمثيل الطوائف وعلى النظام الطائفي الاكثري اشبه بفلكلور هو من متممات المشهد اللبناني ومن غير ان يمتلك اصحابه مع كل احترامنا لهم ولما يبذلونه جرأة تحدي الجدار السميك والانطلاق في حركة جديدة على صعيد الشارع اللبناني تتحدى القوى المهيمنة التي تريد اعادة انتاج نظامها.
البعد الثالث، ان القوى الموجودة في معادلة السلطة والداعمة لخيار النسبية والملتزمة بمضمون التسويات الممكنة تدير التفاوض بمعزل عن ورقة تحريك الشارع للضغط على القوى المعرقلة وهي قوى رجعية مانعة لأي تقدم في النظام اللبناني ورافضة لأي تطور في المجتمع يلبي طموحات الاجيال الصاعدة في البلاد وهذا امر خطير يجعل الصراع على قانون الانتخاب نقاشا في القاعات المغلقة ولا يشرك الناس بأي رأي أو قرار وبالتالي نحن في حلقة مفرغة مستمرة سواء استمر قانون الستين او عدل قليلا لبعض الاجراءات التجميلية او نص القانون المعتمد لإجراء الانتخابات على موعد جديد لقانون جديد قد تتعهد به القوى السياسية ويتحول الى تعهد حكومي لكنه سيضيع مثل غيره طالما لم يحدث تبدل في هذه المعادلة العقيمة.