الإرهاب يرتد على باريس بعد عرعر: فهل يستيقظ صانعوه؟: العميد د. أمين محمد حطيط
لم تكن العملية الإرهابية التي نفذت في قلب باريس في الأسبوع الماضي حدثا عاديا في فرنسا وأوروبا بشكل عام وقد يصح وصفها بالإعصار الأمني العنيف الذي ضرب المجتمع الغربي، رغم أنها في حجمها المادي ونتائجها الميدانية المباشرة لا تصل إلى سقف أي من العمليات الإرهابية الإجرامية التي تنفذ في سورية والعراق على يد الذين يتفنن الغرب في إيجاد التسميات المختلفة لهم من “معارضة معتدلة ” و “جهاديين” و” ثوار”… الخ. ومع هذا يبقى من الخطأ الكبير أن يتم التعاطي معها فقط انطلاقا من حجم الخسائر التي أحدثتها والإرهابيون الظاهرون الذين نفذوها.
كما انه يكون من الخطأ أيضا أن يتم التعاطي مع العملية منعزلة عما يحصل في العالم على صعيد الإرهاب وما يتصل به من دعم واحتضان من قبل هذا الطرف أو ذاك، أو من حرب عليه في هذه المنطقة أو تلك. والخطأ الذي يفوق كل ذلك يكون بالتصور أن الإرهاب والجماعات الإرهابية هي مجرد أدوات طيعة بالغة الانضباط تنفذ الأوامر الحرفية لمن صنعها وتلتزم بتعليماته في الزمان والمكان حسب إرادته ومشيئته.
فمن حيث المبادئ التي باتت مسلمات تقوم عليها عمليات إرساء الأمن والاستقرار، هناك قاعدة الأمن الإقليمي الشامل المنسق، المنفتح ليشكل جزءا من الأمن الدولي التكاملي، وهي قاعدة حلت مكان نظرية “الأمن الوطني الحصري ” التي تراجعت أمام المفهوم المتقدم الذكر تراجعا سببه التطور السريع والنوعي في منظومات التواصل والاتصالات والانتقال. وبالتالي بات على المجتمع أو الدولة التي تريد أن ترسي امنها أن تعتني بما يجري في الإقليم الذي هي فيه ثم في المحيط القريب واللصيق وتبحث عما يوفرانه لها في سياق إرساء منظومتها الأمنية وتقوم بالتنسيق والتكامل معه لإنشاء البيئة الآمنة. فالأمن بيئة قبل أن يكون جهاز شرطة. ومن جهة أخرى ينبغي أن يعرف من يصنع الإرهاب ويدعمه أن أخطر ما في منظومة الإرهاب هو الثقافة الإرهابية التي تسقط مفهوم الدول والأنظمة والقوانين وتتفلت من أي قيد يضبطها لتتصرف كما ترى هي مناسبا لها حتى ولو كان تصرفها ضد من صنعها.
لكن الغرب ومنه فرنسا، ورغم انه كان سباقا في إرساء نظرية الأمن الإقليمي المنسق، المؤكد على مفهوم الأمن الدولي الشامل، ورغم أدراكه لطبيعة الإرهاب الحقيقي، رغم ذلك فانه عمل خلافا للقواعد وظن أن بإمكانه الفصل في التعاطي مع الإرهاب تمييزا بين إرهاب مسموح به يصنع ويصدر أو يحتضن ويدعم للنيل من الخصوم والأعداء، وإرهاب ممنوع يلاحق ويجتث من أي مكان يكون للغرب مصلحة في المحافظة على امنه واستقراره. ظن جاء استكمالا لمنطق الثنائية أو المعايير المزدوجة التي يعتمدها الغرب في كل شيء، ازدواجية تجعل الحق حيث مصالح الغرب حتى ولو كان الأمر جريمة، وتجعل من الأمر المناقض لمصلحة الغرب جريمة حتى ولو كان بطبيعته حقا مشروعا لا يجادل فيه عاقل.
وتطبيقا لما تقدم نجد الغرب رفض منذ أربعة عقود دعوة الرئيس حافظ الأسد لتحديد تعريف للإرهاب، وأصر بخاصة أميركا على توصيف المقاومة المشروعة بانها إرهاب، في حين يصر اليوم على دعم الجماعات الإرهابية التي تعمل في سورية والعراق ضد الشعب وأجهزة الدولة الشرعية في البلدين، ثم يتظاهر استعراضيا بمحاربة بعض الفصائل الإرهابية، في الوقت الذي يقوم فيه بدعم تلك الفصائل وسواها خفية وعلانية.
لقد اعتمد الغرب الإرهاب أداة من اجل تحقيق مشروعه الاستعماري الجديد في المنطقة وهو المشروع الذي فشل في فرضه عبر أربعة حروب متتالية نفذها في اقل من عقدين، وتصورت أميركا ومعها أوروبا وإسرائيل، أن تدمير المنطقة واجتثاث تاريخها وتراثها وتهجير سكانها بعد الفرز على أساس ديني وعرقي، سيمكنها من إعادة صياغة المنطقة وفقا لما تريد، للانتقال من صورة سايكس بيكو التي انتتجت إسرائيل، إلى صورة صهيواميركية تجعل من أميركا قائدة للعالم ومن إسرائيل مديرا إقليميا محليا للمنطقة.
لكن الميدان كذب الحسابات الغربية واظهر خطأ الرهان على الإرهاب، الذي تبين أن بإمكانه أن يقتل ويدمر ولكنه عاجز عن أن يسيطر لتسهيل مهمة أميركا. عجز وفشل فرضه صمود شعوب المنطقة وبطولاتها وتقبلها لأعلى درجات التضحية في الدفاع عن نفسها وجودا وحقوقا مجتمعات ودول.
لقد كان صمود سورية الأسطوري ، و بعده انتفاض العراق الحازم ضد الإرهاب حدثا مفاجئا للغرب في خططه ، و مجهضا للإرهاب في سعيه وفقا للإرادة الغربية ، و رغم كل ما وضع بتصرف الإرهاب من طاقات و وسائل ، فقد حافظت سورية على الإمساك بزمم الأمور ، و استعاد العراق زمام المبادرة في وجه الإرهاب ، إلى أن وصلت الدولتان بدعم من مكونات محور المقاومة الأخرى و مساهمتهم في العملية الدفاعية المفروضة ، وصلتا إلى حد اليقين بالانتصار ، و الثقة بان إعلان الانتصار و العودة إلى الحياة الطبيعية من الأمن و الاستقرار باتت مسألة وقت فقط ، بعد أن فقد المخطط الأميركي أي امل في فرض أرادته كما شاء منذ البدء.
ومع هذه النتيجة كان لابد من طرح سؤال حول مصير الإرهابيين والإرهاب الذي تفشى في المنطقة، والذي تشكل بدعم وتسهيلات مذهلة من 133 دولة تجمعت يوما تحت عنوان كاذب ” أصدقاء الشعب السوري ” (والأصح أن يسمى ” أصدقاء الإرهاب ضد الشعب السوري“).
يطرح السؤال حول مصير الإرهابيين بعد أن بات واضحا أن لا مستقبل لهم في سورية التي التزمت محاربتهم حتى تطهير أرضها منهم ، و بعد أن تعهد رئيس الوزراء العراقي باجتثاثهم من العراق في مهلة لا تتعدى السنة ، سؤال يطرح لأنه من غير المعقول القول بان الإرهابيين جميعا سيقتلون في المواجهة فالمنطق العملي يفرض القول بفرار جزء منهم عائدين إلى المصدر الذي جاؤوا منه ، و تشكل فرنسا و أروبا جزءا من هذه المصادر بعد أن أعلنت هي أن الإرهابيين المنطلقين منها إلى سورية و العراق يلامسون الألف ، كما اكد مسؤولون أوربيون آخرون أن العدد الإجمالي من الإرهابيين المنطلقين من أروبا يلامس أل أربعة الف ، فضلا عن وجود خلايا نائمة و قيد التحضير تتعدى العشرة الاف .
أذن من المؤكد أن جزءا من هؤلاء سيعودون إلى المناطق التي جاؤوا منها، وسيحركون جزءا من الخلايا النائمة، وسيستغلون أي سلوك أو تصرف منحرف ويتخذونه ذريعة لفعل إرهابي ما ويستأنفون نشاطهم الإرهابي الذي احترفوه في الميدان المشرقي.
وكما توجه الإرهابيون إلى السعودية ليضربوا في عرعر قبل أسبوعيين فقد عادوا إلى فرنسا ليضربوا في باريس في الأسبوع الفائت وحصل ما حذر منه يوما الرئيس الأسد منذ أن ضرب الإرهاب سورية برعاية غربية وخليجية. وبات الآن على الجميع خاصة الغرب أن يواجه المعضلة بمنطق ووضوح رؤية وأن يتخلى ولو لمرة واحدة عن الخداع والازدواجية في المعايير والكيدية في التصرف حيال الشعوب التي تتمسك بسيادتها وقرارها المستقل.
لا يستطيع الغرب أن يحارب الإرهاب ويتباكى على ما يفعله فيه، وفي الوقت ذاته يدعم الإرهاب ويشجع أعماله في العراق وسورية، ويخلق الذرائع الاستفزازية للأعمال الإرهابية متذرعا بحرية التعبير فكما يطبق قانون معاداة السامية لمنع استفزاز إسرائيل واليهود عليه أن يفعل الشيء ذاته بالنسبة للأديان والأمم الأخرى فالحرب على الإرهاب يجب أن تكون واحدة شاملة متكاملة عملا بمبدأ الأمن الدولي الشامل المتكامل فالتجزئة والتصنيف بين إرهاب مسموح به وإرهاب ممنوع هو نفاق يرتد على أصحابه ويلا وخسارة. وبالتالي على الغرب أن يتوقف عن دعم الإرهاب ويسارع إلى التنسيق بصدق وجدية مع من يحاربه فعليا كما تفعل سورية والعراق اليوم.
و أخيرا و من غير تورية أو حجب للحقائق يجب أن ندرك بأن المستفيد الرئيسي من الإرهاب عامة و من الجرائم التي يرتكبها الإرهابيون في المنطقة هنا و في الغرب بخاصة هي إسرائيل التي قامت في الأصل على قاعدة الإرهاب الذي ارتكبته عصاباتها و اعتمدت النفس العنصري في سياستها ، و التي ستكون سعيدة جدا بالنزعة العنصرية التي تتصاعد ضد العرب و المسلمين في أروبا ،كما هي سعيدة لما ينزله الإرهاب في سورية و العراق من خسائر و بخلاف ذلك فأن المتضرر الأول من الإرهاب هو الإسلام كدين ، و المسلمون و والعرب كأمة و أفراد ، دون أن نسقط الضرر الكبير الذي يلحق بأروبا دولا و شعوبا و مجتمعات اذا تفشر الإرهاب لديهم و هنا يطرح السؤال :هل تجتمع كلمة المتضررين جميعا لمحاربة الإرهاب بشكل جدي ، دون أن تكون حربا استعراضية خادعة كما هو حال ما تقوم به أميركا مع تحالفها الدولي ضد داعش ؟
الثورة – دمشق – 12\1\2015