بين كبوجي وعملية القدس… وصوت العرب
ناصر قنديل
– يرسل التاريخ في أحيان نادرة مصادفات مرمزة غير مفسّرة، لا يمكن قبولها كمصادفات مجردة. منها هذه المصادفة بتزامن عودة جثمان المطران المقاوم ايلاريون كبوجي من روما إلى بيروت، وهو رمز من رموز القدس وإيقوناتها، مع العملية البطولية الاستشهادية لفادي قنبر. الشاب المقدسي الذي أشهر شاحنته ومضى يطلق العنان لها حتى حصدت إحدى وعشرين إصابة، بمثابة إحدى وعشرين طلقة لروح المطران الذي لم تصطفّ له بنادق جيش عربي أو تطلق له مدفعية مثلها في تحية الوداع. والقدس التي لم يبق إلا الجيش العربي السوري من بين جيوش العرب مَن يعتبرها بوصلة لأمنه القومي تعرف أن الحرب التي شنت عليه هي حرب شنّت عليها بالواسطة، فتعذره، بينما كبّل الجيش اللبناني المقاوم بتسويات تراقبه وتجعله تحت مجهر الطوائف والتبعيات الإقليمية وتحصي عليه الأنفاس فكيف الطلقات والتحيات، فتنتظره.
– قيمة عملية القدس وصلتها الرمزية برحيل المطران كبوجي السوري الحلبي، بعدما تحرّرت حلب، تتعدّى مجرد الثقة بأن القضية الفلسطينية باقية ولن تموت، وتتعدّى الشعور بالفخر لوجود شباب فلسطيني ومقدسي مثابر على القتال لا يعترف بنظريات موازين القوى التي تجبن عندها جيوش ودول وأحزاب ومنظمات، وسلطة فلسطينية تستجدي التفاوض. فالعملية تطرح قضيتين على المستوى الفكري تحتاجان للإضاءة أمام الشعوب والنخب والمثقفين ومتعاطي الشأن العام، وصنّاع الرأي العام: الأولى هي الربط الميكانيكي الذي يقيمه العقل العربي الجمعي بين كل دعوة لنصرة قضية محقة وطلب وصفة متكاملة جاهزة واضحة في بلوغ النصر، منطلقاً من غياب القدرة على تقديم مثل هذه الوصفة للانسحاب حتى من النصرة الكلامية، تحت شعار ماذا سنفيد وماذا سيستفيد أهل القضية. والثانية هي الاختباء وراء معادلة قوامها، ما هي قيمة الكلام والتغيير تصنعه الأفعال وما بيدنا غير الكلام؟
– ببساطة شديدة، الأمر يبدو كما يلي، أن تحرير فلسطين أو بعضها تحريراً نظيفاً من كل مساومة تنجزه مقاومة بوجه الاحتلال، لا يبدو مشروعاً راهناً. فهل يبدو مشروع الاستنزاف مشروعاً واقعياً ممكناً. الوقائع التي يقولها تتالي الانتفاضات والهبات والمواجهات وموجات المقاومة إنه ممكن وواقعي ويحدث. ليصير السؤال هل إدامة الصراع وإشغال المحتل وإثبات الحق الحي، والقضية والهوية كحقائق تصرخ بوجه العالم الساكت عن الحق كشيطان أخرس، أليست ضرورات الانتقال في زمن السوء حتى يحين زمن النهضة، وتتفتح زهور التغيير وتظهر معطيات تجعل المقاومة الهادفة للتحرير مشروعاً؟ أليس الاستنزاف ستهلاكاً لجهود عقلية ومادية واستخبارية وتخطيطية للعدو، كانت ستذهب لتأبيد الاحتلال والاستيطان ويُضطر بسبب هذه المقاومة لاستهلاكها في مواجهتها كخطر، ثم أليست طرحاً مدوياً على مستوى العالم، لأسئلة عن أسبابها تفضي في أكثر من مكان لجعل القضية حية وتقول: عبثاً تحاولون إقامة استقرار من دون حل يعترف بالحقوق، أليس هذا مغزى كلمة تشي غيفارا الخالدة: سنبقى نصرخ حتى لا ينام هذا العالم بثقله فوق أجساد البائسين. مَن يملك الحق بإصدار الحكم بعبثية الصراخ والمواقف كاستنزاف لعدو ومحتل وظالم؟ مَن يملك الحق بالحكم بلا جدوى الإشغال والإرباك إذا استعصى الاستئصال، حتى في علم الدواء صار الأطباء يتحدثون عن مضادات يعلمون لاجدواها في إنهاء الأمراض المستعصية وتكتفي بإشغالها أملاً بإضعافها والتمكن منها بوسيلة أخرى، أو ريثما يكون الطب قد أوجد ما هو أجدى؟
– في المسألة الثانية وهي مسألة القول والكلام، وهنا لن نتحدث عن فلسفة الديانات والأفكار التي غيّرت العالم وكلّها تأسست من أقوال، سنكتفي بما هو مباشر رداً على الذين يقولون وما جدوى القول، ونحن لا نملك آلة الفعل. والقول المقصود هنا هو بالتحديد ما يملكه كل مَن يكتب ويتواصل عبر الصحافة والقنوات الفضائية لأصحاب المكانات المرموقة لبعض القادة والكتاب والمفكرين أو بعض المشاهير والفنانين، ومَن يملك فرصاً أضيق لكلمة تصل على نطاق أصدقائه من رواد وسائل الاتصال الاجتماعي. والقصد بالكلام هو أضيق مما يتخيّل البعض، تخصيص كلمة من نوع نحبك، ولن ننساك فلسطين في الشهر مرة، أو إعادة نشر قول أو قصيدة أو تحية أو موقف لقائد كجمال عبد الناصر أو حافظ الأسد أو ياسر عرفات أو الرئيس بشار الأسد والسيد حسن نصرالله، أو مقولة من مقولات الإمام الخميني أو قصيدة لمحمود درويش، للقول لشباب فلسطين وشعبه إنهم ليسوا وحدهم، وإن قضيتهم لا تزال قضية العرب، ولو تركها حكام وخانتها قيادات، ومَن لا يعلم فليعلم أن شباب الانتفاضة، والمقاومين هم مَن يطلب هذا، فيقولون إن كل مرة يتحدث فيها السيد حسن نصرالله أو الرئيس الأسد ويمنحان فلسطين وقتاً كافياً تنتعش نقاشات ومناخات وتتخزّن في الروح والذاكرة عزماً لا تنفصل عنه الروح التي تقف وراء العمليات المقاومة. وكلما تستهلك إطلالات وخطب القادة المنتمين لخط المقاومة قضايا تختصر مساحة فلسطين يشعر المقاومون بخيبة وقلق وضعف. ويضيف هؤلاء الشباب نتابع كل مَن تعلمون ولا تعلمون وننقّب عن كل كلمة وتحية لفلسطين، فلا تظنوا كلماتكم بلا جدوى إنها الروح التي تنعش قلوبنا وتفعم قلوبنا بالقوة والعزم فلا تنسونا.
– قال المطران وفَعَل القنبر، وأصيب الاحتلال بالذهول مرتين، قولوا هذا يكفي… تحيا فلسطين.
(البناء)