مقالات مختارة

تركيا وحلب: «عمق استراتيجي» استحال «فاجعة استراتيجية» محمد نور الدين

 

«لؤلؤة البوادي» و«توهّج الحرير»، تنهض من تحت الخراب وردة عملاقة ترشّ عطرها على كل البشرية من كوبا إلى بكين، ومن موسكو إلى اليمن، مروراً بمدينة الياسمين وستّ الدنيا، لتعود شهباء إلى قلعة شهدائها.

على كامل التراب السوري، نثر الشهداء دماءهم يدفعون بها مذلّة تاريخية كان الأعداء يعدّون لها كي لا تكون بعدها قائمة لكل الأحرار والشرفاء. ولتخلو الساحة لشذاذ الآفاق أفراداً كانوا أو زعماء دول.

بتحرير «الشهباء» أنقذ الشهداء سوريا والعرب والبشرية جمعاء من أكلة الأكباد، وسباة النساء، وحماة الظلام، وعاشقي السكاكين، ومكسّري الصلبان.

لم تنته المعركة بعد، لكنها في طريقها الثابت والراسخ إلى النصر الشامل. وهي لا تزال تحتاج إلى كل نقطة دم تُبذل، وإلى كل طلقة كلمة واكبت النصر وفنّدت خطاب العدو وعرّته. وهو عدو مترامي الأطراف، سواء رطن بالعربية أو فحّ سمّه بالتركية أو لغات العالم كافة. هي معركة لم تنته وسيُواصلها كل الشرفاء وبعزيمة أكبر بعدما اجتازوا الأصعب لتعلن سوريا، بعربها وأكرادها وبمسيحييها ومسلميها، حرّة أبية يتشرّف بها تاريخ الإنسانية.

-2-

هي إحدى أكبر المهزومين في حلب، بل رأسهم: تركيا التي أرادت من حلب أن تكون بوابتها إلى إسقاط دمشق وكل المنطقة.

1ـ بتحرير حلب، ختم باب المشروع التركي في المنطقة هذه المرة.. بالشمع الأحمر. السلطان، الذي لم ينجح مع صدر أعظمه وناظر خارجيته، أن يسقط سوريا على امتداد ستّ سنوات، دفع به الحنق والغضب والسخط والوهم، لكي يُعلن أنه دخل إلى سوريا في آب الماضي، لكي يسقط حكم بشار الأسد. لكن الفاجعة الاستراتيجية، أن الهدف التركي لم يدم لكي ينهار أكثر من ثلاثة أشهر. فحتى على مدى زمني لا يتعدّى ثلاثة أشهر، لم يستطع السلطان أن يرى ما في الأفق.

2 ـ بانهيار الإرهابيين في حلب، انهارت منظومة كاملة من العبث والنزق الإيديولوجي لجماعة العمق الاستراتيجي. سوف يُعيد مُنظّر العثمانية الجديدة النظر في كل ما كتبه سابقاً. قد لا يجد الشجاعة كي يُحرق كتابه، لكنه بالتأكيد لن يمضي بقية عمره مستقرّاً مُطمئناً.

وكذا سيّده الذي لن ينجح في الوصول إلى آخر نقطة وصل إليها جده سليمان القانوني كما كان يبشّر. لأنه لن يجد حصاناً يقبل أن يمتطيه مخادع وحانث ومنكر للوفاء عندما فتحت سوريا أبوابها له، فظنّ أنها تدعوه لاغتصابها. ومن كان يريد الصلاة في الجامع الأموي، قد لا يجد مكاناً للصلاة حتى في جامعي فاتحه وسليمانه في اسطنبول.

3 ـ بانهيار حلب، انهارت العثمانية الجديدة نهائياً. وفي العام الذي أراده سلطانها الأخير أن يكون عام تجديد معركة «مرج دابق»، وغزا سوريا في اليوم نفسه للمعركة في 24 آب الماضي، كان الحلم العثماني يتحوّل إلى وهم. بانهياره، انهار البُعد الإيديولوجي للمنظومة السلطانية. وهو ما ستكون له تداعيات كارثية أيضاً على غلمان السلطان من المُثقّفين والمُنظّرين في الدول العربية الذين يتحسّسون اليوم رقابهم هنا وهناك.

4 ـ بانهيار حلب، انهار حلم السلطان الجديد أن يُجدّد حلم السلطان عبد الحميد في أن يكون الزعيم اللامنازع للعالم الإسلامي. سيجد اليوم كثيرين، ولا سيما في الخليج، وهم يتنهّدون لإزاحة أكبر مُنافس لهم على الرغم من أنهم مستاؤون جداً من تعاظم قوة بشار الأسد.

5 ـ وبانهيار حلب، سوف تنهار ثقة المُغرّر بهم من شعوب المنطقة، أو بعض هذه الشعوب، بقدرة العثماني الجديد على أن يقودهم بشعاراته المذهبية والعنصرية التي لم تكن سوى مشاريع انتحار.

6 ـ وبانهيار حلب، تنهار كل المنظومة الإعلامية للبلاط المتآكل الذي لن يتأخر كتبته في تقاذف المسؤوليات وتهشيم بعضهم بعضاً. كتبة يتسابقون اليوم على نعي «حلبهم» (وما كانت يوماً لهم ولن تكون) وتوديعها، هي التي لم تكن يوماً سوى مخرز في عيون أطماعهم.

على الرغم من أن القوات التركية لا تزال تحتل أرضاً في شمال سوريا، فإن الكل داخل تركيا سيتساءل عمّا يفعل انكشارية السلطان هناك، الذين أصبحوا صيداً للحسابات الخاطئة.

وتزداد كآبة السلطان مع الانهيارات التي تضرب اقتصاده بعد التراجع الدراماتيكي لسعر صرف الليرة في مقابل الدولار. أراد منهم أن يُحوّلوا دولاراتهم إلى الليرة، فيما كان يدفع عداً ونقداً 78 مليون دولار ثمناً لطائرة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي الرئاسية.

7 ـ بانهيار حلب تكتمل عزلة السلطان. صدام مع واشنطن ومع أوروبا، وتباين مع كل الحلفاء الإقليميين. لم يعد للسلطان من يُراسله. لم يعد للسلطان من «يُشفق» عليه، سوى عدوه التاريخي الروسي. قمة التراجيديا العثمانية أن تتهاوى حلب على يد الحلفاء ومنهم الروسي، فيما يُبرم بن علي يلديريم، في اليوم نفسه في موسكو بالذات، اتفاقات للتبادل التجاري بالعملية المحلية لكلا البلدين. استجارة التركي بالروسي هي مثل استجارة الرمضاء بالنار. انتهى التركي في الخارج، وإذا كان يُريد أن «يتسلّى» في الداخل بتغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي أو باستكمال اصطياده لمُعارضيه بذريعة أنهم تابعون لفتح الله غولن، فإن اللعبة برأينا لن تطول. فأن تبني ديكتاتورية على أنقاض استئصال كل الآخرين من أكراد وعلمانيين وعلويين، هي أشبه بالسعي لإسقاط النظام السوري حين كانت حلب تقترب من تحريرها ومن دفن الأحلام السلطانية.

مأسسة الاستبداد ليست سوى الطريق الأسرع لاضطراب داخلي كبير لن يعرف أحد من أين ستهب رياحه. تماماً كما فعل قادة الاتحاد والترقّي عشية الحرب العالمية الأولى، الذين لم يوفروا أرمنياً ولا عربياً من مجازرهم وتمييزهم، فانتهت مغامراتهم البائسة إلى انهيار الدولة لا النظام فقط.

-3-

أي مستقبل لتركيا بعد تحرير حلب؟

بتحرير حلب انكسر «عمود الخيمة» التركية في سوريا. لقد بذلت أنقرة كل ما في وسعها لحماية المسلحين في حلب وكلهم منضوون تحت لواء «النصرة». الآن لم يعد لتركيا سوى إدلب وريفها إضافة إلى الأراضي التي تحتلها.

ليس من منفذ لمسلحي إدلب وريفها سوى الأراضي التركية. تركيا المعزولة ستكون محاصرة بالمسؤولية عن استمرار دعمهم. إذا كان لتركيا ما تفعله، فهو أن تُعيد هؤلاء إلى حضنهم الدافئ في الداخل التركي، وألا ترميهم إلى مصير كمصير مُسلّحي حلب، أو أن تُرسلهم لتحرير الجزر اليونانية في بحر إيجه. أما خلاف ذلك، فليست سوى مسألة وقت لتحرير إدلب وجسر الشغور وإغلاق الثغرة التركية نهائياً.

أما مُستقبل القوات التركية في الأراضي المحتلّة حتى الآن، فلن يكون أفضل من مصير مسلحي حلب ولاحقاً إدلب. تركيا في التوصيف الدولي بلد يحتلّ أراضي دولة أخرى لم تدعُها للدخول بل طالبتها بالانسحاب الفوري. إذا كانت تركيا تتحجّج بأنها دخلت لضرب «داعش»، فالجيش العربي السوري هو المحارب الأول لـ «داعش»، وإذا كانت تتذرّع بقطع الممرّ الكردي فالدولة السورية لا تُريد مثل هذا الممرّ. لذا، فليس من سبب يدعوها للبقاء على التراب السوري. أما إذا لم تقبل بأي من هذين الخيارين، فهذا يعني أن تركيا ستُمارس سياسة حافّة الهاوية على قاعدة «ومن بعدي الطوفان».

ولكن بعد سقوط حلب وإيقاف الجيش التركي عند «الباب»، وبعين حمراء روسية وإيرانية، فإن إصرار تركيا على البقاء لأسباب أخرى، يعني مخاطر نشوب حرب مع تركيا التي لن تكون في وضع مُساعد لخوضها في ظلّ انسداداتها الداخلية وعزلتها الدولية ومُشكلاتها الخارجية وافتقارها الى المُبرّر القانوني لاحتلالها.

أما إذا كانت تركيا ستلجأ لاستخدام احتلالها ورقة ضغط للحصول على ما يحفظ ماء الوجه، فهذا ما لا ينبغي الوقوع في فخّه لأن تركيا، كما ذكرنا في مناسبات سابقة، ستؤسس عليه للادعاء بـ «حقّ تاريخي» لاحق. وما لم يعط لها في ذروة ضغوطها، يجب ألا يعطى لها في ذروة انكسارها، مهما كان الثمن لتحرير الأراضي المحتلة في شمال سوريا كبيراً.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى