مقالات مختارة

«الخميس الأسود» في تركيا.. من الباب إلى ستراسبورغ محمد نور الدين

 

يُحارب رجب طيب أردوغان على أكثر من جبهة. بل يمكن القول إنه يحارب، ودفعةً واحدة، على كل الجبهات الداخلية والخارجية.

ليس من سبب منطقي يدعو للاعتقاد أن أردوغان «سوبرمان» قاهرٌ للحواجز البرية والجوية والبحرية، أو أنه «الشعرة» التي تنسلُّ من بين عجين كل الدول والقوى الكبرى والإقليمية.

أردوغان يسابق الريح

لا شكّ أن استمرار زعيمٍ منذ 14 عاماً في بلد تتعدّد فيه التعقيدات الداخلية، وتتداخل فيه التقاطعات الخارجية، أمرٌ يعكسُ دهاء الرجل وقُدرته على استغلال التباينات لتنفيذ أجندة خاصّة به تُعزّز سلطته وحكمه وتياره الفكري والسياسي. لكن من عادة مثل هؤلاء الحكام، ومن التجارب التاريخية، أن موجة الاستئثار وجرف المُعوّقات التي يضغطون بها على خصومهم وأعدائهم، ليست سوى المراحل التي تسبق المُنعطف الحاسم للاصطدام الكبير بحائط انسداد الأفق.

في الداخل، يُسابق أردوغان الريح عندما تُصدر حكومته ووزراؤه القرار تلو الآخر وفق أحكام حال الطوارئ، وخارج أي مُحاسبة من البرلمان لتغيير بنية الدولة بكل مؤسساتها.

فتطهير الجيش من كل المشكوك في ولائهم، خارج كذبة الانتماء لجماعة فتح الله غولن، جارٍ على قدم وساق. خلال وقت قصير، يكون «جيش» من الضباط الإسلاميين قد حلّوا محلّ الضباط العلمانيين الذين يجري تصفيتهم بعشرات الآلاف.

وخلال وقت قصير أيضاً، يكون قد اكتمل حشو الدولة بكوادر اسلامية كاملة الولاء لأردوغان. لقد وقع العلمانيون والعسكر والليبراليون، وحتى اليساريون، في فخّ «الإصلاح الديموقراطي وتعزيز الحريات» التي أطلقها أردوغان في السنوات الأولى لحكمه، فكانت النتيجة أنها لم تكن سوى وسيلة للتخلّص منهم ومن كل معارضيه، حتى إذا كادت العملية تكتمل، انقلب بالكامل على هذه الإصلاحات.

أتاحت مُحاولة الانقلاب الفاشلة كل الإمكانات لتنفيذ أجندة تغيير بنية الدولة، فيما ضاقت إمكانات العمل الديموقراطي والمدني السليم والطبيعي أمام المُعارضة إلى حدّها الأقصى.

حزب «الحركة القومية» في اللحظات الحاسمة، ليس سوى ورقة نجاة لأردوغان، ولكل التيار القومي التركي. أوصل عبد الله غول إلى الرئاسة في العام 2007، وأعاد حزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة في العام 2015، وها هو يُزيل الحواجز أمام تغيير النظام إلى رئاسي يستفيد منه فقط أردوغان. ولذلك حزب «الحركة القومية» لا يدخل ضمن حسابات المعارضة.

أما حزب «الشعب الجمهوري» فقد افتقد الجرأة على المُواجهة سواء في الشارع أو في البرلمان أو في اللحظات الحاسمة. وبعد انقلاب 15 تموز، أُخذ بخديعة الدفاع عن الديموقراطية ومنح أردوغان صكّ التنكيل بالمُعارضة عبر المشاركة في مهرجان السابع من آب، والاجتماعات التي دعا إليها أردوغان في القصر الرئاسي تحديداً «دفاعاً عن الديموقراطية»، على الرغم من أنهم كانوا يُدركون سلفاً بأن من ضحّى بأعزّ رفاقه في الحزب لا يُمكن أن يكون وفياً وصادقاً مع المُعارضة.

اليوم يُقرّر حزب «الشعب الجمهوري» اللجوء «إلى الشارع» لرفع مستوى المعارضة. الدافعُ لذلك، إصرار حزب «العدالة والتنمية» على تمرير مشروع دستور جديد ينقل البلاد من نظام إلى نظام. تعديل بنية الدولة سوف يكتمل بإقرار الدستور الجديد، في استفتاء في الربيع المقبل على الأرجح، الذي سينقل البلاد إلى نظام رئاسي لا يشبه أياً من الأنظمة الرئاسية في العالم، وهو أقرب إلى ما كانت عليه البلاد في العهد العثماني منه من أي عهد آخر. مع ذلك، لا أحد يعرف مدى جدّية حزب «الشعب الجمهوري» باللجوء إلى الشارع والأشكال التي ستتّخذها هذه التحرّكات، وما إذا كان سيذهب إلى النهاية في ظلّ الذوبان القسري للمُعارضة.

الاندفاعة الأردوغانية كسلطةٍ وهوية وصلت أبعد من ذروتها في العلاقة مع الحركة الكردية: تنكيل دموي تدمير قرى ومدن، ثم ألقت بقادتهم في السجن، وهم نوابٌ منتخبون ورؤساء بلديات منتخبون. لكن اللافت أن أردوغان استهدف دفعة واحدة، ومن دون أي خجل، كل القيادات الوازنة في الحركة الكردية. لكن أن تصل سكين الاعتقال إلى أحد القادة الوقورين والمعتدلين، ليس في الحركة الكردية بل في كل تركيا، مثل رئيس بلدية ماردين أحمد تورك، فهذا تجاوزٌ لكل الخطوط الحمر.

وفي ظلّ مُحاولة شلّ كل المعارضات السياسية والفكرية والصحافية، يُواجه الاقتصاد التركي أزمات لم تكن سابقاً. من ذلك، ارتفاع كبير في نسبة البطالة التي «يتفاجأ» أردوغان من نسبتها التي تتجاوز الـ 12 في المئة رسمياً، بينما هي عملياً أكثر من 20 في المئة. كذلك ترتفع نسبة التضخّم من جراء التدهور السريع لقيمة الليرة التركية التي تراجعت خلال أسبوعين فقط من ثلاث ليرات في مقابل الدولار إلى 3,47 أمس الجمعة، بعدما كان مُقدّراً أن يصل سعر صرف الدولار ثلاث ليرات فقط في نهاية العام 2016، فإذا به يُخالف كل التوقّعات قبل شهر ونيف من نهاية العام. انهيار سعر صرف الليرة التركية، الذي قد يكون صباح نشر المقال، أعلى مما هو عليه لدى كتابتها قبل ساعات، يضرب أحد مكامن القوة الأردوغانية.

شعور أردوغان بأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء تلقى، بعد ضربة الليرة التركية، ضربة كبيرة أخرى. فقد سجّل المجتمع المدني أحد اهم انتصاراته حتى الآن، عندما حال دون إقرار قانون يعفو عن المغتصب للفتاة في حال قرر أن يتزوّج ضحيته. والمسجونون في هذه القضية يبلغ عددهم ثلاثة آلاف شاب. الحركة النسائية التركية نجحت في منع تشريع وتشجيع الاغتصاب في ما هو بقعة ضوء في نفق فرض أردوغان، الإسلامي المحافظ!، إملاءاته على المجتمع التركي.

قرار البرلمان الأوروبي

وفي اليوم الذي تلقّى الأمن والاستقرار في تركيا ضربة أخرى بتفجير أمام محافظة أضنة وسقوط قتيلين صباح أمس الأول الخميس، كانت الأنظار تترقّب نتائج تصويت قرار البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ على اقتراح تجميد المفاوضات مع تركيا. النتيجة كانت مُتوقّعة، ولكن ليس بهذا الحجم الكبير الغاضب من تركيا. صوّت 479 في مقابل 37 نائباً لصالح تجميد المفاوضات مؤقتاً. القرار ليس مُلزماً، بل هو توصية ترفع لزعماء دول الاتحاد الأوروبي الذين سيتّخذون القرار النهائي في قمّتهم يومي 15 – 16 كانون الأول المقبل.

سواء اتخذ زعماء الاتحاد قراراً بتعليق المفاوضات أم لا، فإن المفاوضات عملياً مُتوقّفة منذ العام 2005، أي منذ اتخاذ القرار ببدئها. فأردوغان لا يريد أساساً الاتحاد الأوروبي. لم يكن يريد سوى «كليشيه» المُفاوضات لا أكثر ولا أقلّ، لسبب وحيد وهو أن انضمام تركيا إلى الاتحاد يعني شيئاً واحداً، وهو عدم قدرة أردوغان على تنفيذ مشروعه، لأن عملية الانضمام تعني حلّ مُشكلات تركيا الكردية والعلوية وترسيخ الديموقراطية والحريات واستقلالية القضاء والشفافية والمساءلة وهي كلّها على النقيض من مشروع أردوغان الاستئثاري الإقصائي الذي حمله منذ البداية ويواصل العمل عليه. لا يعرف إلى أين ستذهب أوروبا في ضغوطها، خصوصاً أنها بدورها انتهازية ولا تُريد التخلّي عن تركيا ومزدوجة المعايير. لكن قرار البرلمان الأوروبي مع ذلك، يُشكّل نكسةً معنوية على الأقل لشعارات أردوغان، وفضحاً لزيفها لا سيما في ما يتّصل بالحريات السياسية والفكرية والصحافية.

العراق يتحدى

هنا تبدأ العوامل الداخلية تتقاطع مع التطورات الخارجية. حملات الداخل ضدّ المعارضة والمؤشرات السلبية التي تظهر اقتصادياً وأمنياً وسياسياً تتزامن مع خط مُشابه خارجياً.

العنتريات التركية التي بلغت ذروتها في معركة الموصل، والتي تُرجمت احتلالاً في سوريا، تُواجه مصيراً مجهولاً وتحديات كبيرة.

لقد حذّر أردوغان من أنه لن يسمح بمعركة الموصل من دون مُشاركة القوات التركية في بعشيقة. لكن المعركة بدأت ومستمرة من دون هذه القوات. وحذّر من تقدّم «الحشد الشعبي» إلى تلعفر، ومن أن يقوم بتغيير الهوية الديموغرافية هناك. وحشد بكثافة وراء الحدود عند منطقة سيلوبي القريبة من الحدود العراقية. لكن «الحشد» تقدّم ويُواصل تقدمه. في الواقع، لم يقفل الباب على ردود فعل تركيا، على الأقل في تلعفر، بعدما تجاوزت معركة الموصل قدرة أردوغان على التدخل. في الواقع، تركيا لم تكن تريد أصلاً أن تصل لحظة تحرير الموصل، هي التي ساهمت مع أثيل النجيفي باحتلال المدينة. الرغبة التركية بالمشاركة في تحرير الموصل لم تكن لتحريرها، بل لعرقلة التحرير. شكّلت المواقف التركية اليومية والمُهدّدة، لحظة تشويش وإرباك للجيش العراقي وقوات «الحشد» لمنع بدء مهمتها في الأساس فكيف لاستكمالها. الإنجاز العراقي حتى الآن، هو التصميم على مواصلة المعركة في الموصل رغماً عن إرادة أنقرة الاستفزازية.

الرسالة السورية

ربما، أسّس الموقف العراقي «الصامد» والمغاير للمواقف السابقة للحكومة، مثالاً لما حصل بعد ذلك في سوريا، بل ربما كان محرجاً للأطراف المُتواجدة على الساحة السورية وفي مقدمها روسيا، وعاملاً على دفعها لتغيير قواعد اللعبة.

«الخميس الأسود» لتركيا اكتمل بقصف الطيران السوري، مبدئياً، للقوات التركية في منطقة الكفير على مقربة من الباب. قتل ثلاثة جنود أتراك. قبل ذلك، استهدفت القوات السورية مواقع لـ»الجيش السوري الحر» وسقط قتلى بين المسلحين. لكنّها المرة الأولى التي يسقط فيها قتلى عسكريون أتراك داخل سوريا على يد الجيش السوري. هذه نقطة تحوّل جديّة هذه المرة.

عندما دخلت تركيا إلى سوريا بعملية جرابلس في 24 آب الماضي، كان ذلك كما بات معلوماً بتفاهم مع روسيا أولاً وربما مع إيران، وتالياً بغضّ نظر اضطراري من دمشق.

من جرابلس إلى الراعي نزولاً إلى أبواب الباب ومن بعدها، إذا ما أمكن، إلى منبج ومن بعدها إلى عفرين والرقّة. استباحة تركية للأراضي السورية عكس خطأ إدخالهم في الأساس.

القصف السوري للقوات التركية، أمس الأول، رسالة مثل عين الشمس بأن التقدّم التركي لم يعد مسموحاً. رسالة لا تتمّ من دون تنسيق وربما مشاركة روسيا ومعها إيران.

التهديد التركي بردّ على القوات السورية سيكون دونه حسابات متعددة. قد يكون هناك ردّ محدود، لكنه قد يفتح على احتمال انفجار الصدام بين البلدين وهذا قد يتعدّى كل «جنون» حاكم أنقرة. لكن المسألة يجب أن تكون أبعد من ذلك. إن التحذير السوري بالنار والدم لا يكفي. فمجرد وصول تركيا إلى عتبة الباب، وفي هذه المساحة من أراضي سوريا هو إنجاز لتركيا. وقد تستكمل هذا الإنجاز في اتجاه منبج او عفرين وبعد ذلك إلى الرقّة. وهذا أيضاً يزيد من حجم الأراضي السورية المحتلة ومن نفوذ تركيا. الرسالة السورية ـ الروسية ـ الإيرانية المشتركة يجب أن تشمل منذ الآن أي تحرّك أو تقدّم لتركيا في أماكن جديدة من سوريا، وأن تُدعى تركيا للانسحاب من الأراضي التي احتلّتها حتى الآن وتسليمها، إذا كانت صادقة في رغبتها رؤية الشريط الحدودي مع تركيا خالياً من الإرهاب، إلى الجيش السوري حصراً.

«رسالة الكفير» المُشتركة يجب أن تدفع أنقرة لإعادة حساباتها منذ الآن فصاعداً في سوريا وفي التفكير في عواقب أفعالها وألاعيبها تجاه سوريا والعراق خصوصاً أن توقيتها جاء في الذكرى السنوية الأولى بالضبط، أي في 24 تشرين الثاني، لإسقاط تركيا الطائرة الروسية، وما أعقب ذلك من عقوبات روسية ألحقت أكبر الأذى بتركيا، مع فارق أن العقوبات هذه المرة قد تكون شاملة، ومن جانب أكثر من طرف وفي أكثر من مستوى اقتصادي وسياسي وعسكري. فهل تقرأ أنقرة رسالة الكفير جيداً وبعقلانية أم أنها ستُواصل عنادها وأوهامها، وتتحمّل بالتالي عواقب أفعالها؟

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى