مقالات مختارة

التهديد التركي لوحدة سوريا والعراق: ما العمل؟ محمد نور الدين

 

من جرابلس إلى الموصل ومن الموصل إلى حلب، يتنقل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومُعاوناه رئيس الحكومة بن علي يلديريم ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو. التدخّل العسكري في جرابلس وما بعدها، كان اختباراً مُشجعاً له لتكراره في الموصل، والتركيز على البعد التاريخي في الموصل عمّمه أيضاً على حلب.

لقاء المخاتير الأسبوعي تحوّل إلى موعد ثابت يُطلق منه أردوغان «أفكاره» وتهديداته، بعدما كان رئيس الوزراء السابق احمد داود أوغلو يقوم بهذه الوظيفة. للمناسبة، يُمكن أن يكون داود أوغلو أحد أكثر الناس سروراً بما تفعله تركيا اليوم في سوريا والعراق. وما عجز عنه في حقبته يتحقّق الآن. هذا دليل آخر على أن عزل داود أوغلو لم يكن مرتبطاً، كما شاع لدى البعض حينها، بتغيير في سياسة تركيا الخارجية.

لقد قال أردوغان إنه «لا مشكلة لنا مع حلب»، لكنه أتبع ذلك بجملة تحفّظات ومُلاحظات تعكس حقيقة أن له مُشكلة فعلية مع حلب وفي حلب. وبعدما قال إن «الموصل للموصليين»، ها هو أردوغان يُكرّر اللازمة نفسها على حلب: «حلب للحلبيين». وكما قال إن «الموصل كانت لنا»، ها هو يقول عن حلب: «لنا روابط تاريخية وثقافية ونسب في حلب»، و«يجب أن نوضح ذلك». أيضاً، وكما أراد المُشاركة في معركة الموصل، ها هو يقول: «نحن مُستعدون لخوض معركة مُشتركة ضدّ المجموعات الإرهابية في حلب».

يأخذ أردوغان التاريخ في المنحى الخاص به وفي اتجاه واحد. التاريخ عنده له دفق واحد في اتجاه الجنوب، نحو العراق وسوريا. رئيس الوزراء العراقي بدا مسؤولاً وهادئاً عندما ردّ على أردوغان بأن هذا المنطق لا يوصل إلى نتيجة. ذكّره بأن كل تركيا، أو معظمها، كان تحت سلطة بغداد عاصمة الدولة العباسية. فهل نُطالب باستعادة تركيا إلى سلطة بغداد؟

يُمكن بالطبع لكل جيران تركيا أن يُذكّروها بالماضي، وفي مُقدمهم اليونان، بأن اسطنبول لم تكن سوى القسطنطينية، وبأن شرق تركيا لم يكن سوى أرمينيا، وإذا كانت جوامع الأتراك لا تزال في الجزر الـ12 في ساحل إيجه، فإن الكنائس والقصور والآثار البيزنطية لا تزال في كل مكان في الأناضول. ويُمكن لكل هؤلاء أن يُذكّروا الأتراك أنفسهم، بأنهم دخلاء وطارئون على هذا المشرق، ولم يطأوا أرضه سوى في نهاية القرن العاشر للميلاد آتين من شرق آسيا ووسطها، ولم يدخلوا أوروبا ولا المنطقة العربية سوى غازين ومُحتلّين.

أيضاً، فإن التساؤل هو لماذا يقول أردوغان «يجب أن نوضح ذلك» ولمن يجب أن يوضح ذلك؟ هل للولايات المتحدة؟ أم لروسيا؟

رسائل أردوغان كثيرة وخطيرة. هي تعكس مشروعاً حمله منذ البداية، له ركائز ميدانية وإيديولوجية بحمولة تاريخية مُكثّفة.

اتبعت تركيا، منذ بداية الحرب في سوريا، سياسة هدفها إسقاط النظام في سوريا كخطوة أولى لإسقاط حكومة نوري المالكي في العراق، وكسر محور الممانعة ورأس حربته إيران، وتطويق روسيا، بدفع أميركي. واعتمد للوصول إلى هدفه على وكلاء، عمل على رعايتهم واتخذوا أسماء مختلفة من «الجيش السوري الحر» إلى «نور الدين زنكي» و«السلطان مراد» و«جبهة النصرة» و«داعش». أسماء مُختلفة لمضمون واحد. ورفد هذه المجموعات بأكبر عملية انتقال في التاريخ لمُقاتلين عبر الدول والقارات، كانت تركيا مقرّهم ومنصّتهم للانتقال إلى سوريا، قبل أن يُوجّههم إلى العراق في الغزوة المشهورة قبل عامين ونصف عام.

سقوط سوريا والعراق وكسر إيران لم يكن الهدف الوحيد أو النهائي للأتراك. السلوك التركي في مصر وتونس وفي الدول الخليجية كان واضحاً لجهة استكمال المشروع التركي، ليستهدف كل خصوم تركيا التقليديين في مصر والسعودية والإمارات. أي أن هذا المشروع يستهدف كل المُكوّنات الواقعة في المنطقة العربية وإيران.

وقد فرضت التطوّرات نفسها على التوازنات، وتقهقر المشروع التركي الذي لم يبق له سوى المئة كيلومتر بين جرابلس وأعزاز. في هذه اللحظة، كانت أحداث صيف 2016 حاسمة ونقطة تحوّل في المُعادلات الميدانية، وربما السياسية.

أحسن أردوغان الاستفادة من لحظة التطبيع مع روسيا، ومن ثم فشل الانقلاب العسكري. أراد أن يدفع بالأمور على قاعدة «الصولد»: إما أن يربح كل شيء أو يخسر كل شيء. قد يقول البعض إن هذا المنطق يتعارض مع «براغماتية» أردوغان، لكن الغلط هنا، هو في القول إن أردوغان براغماتي. عندما يتعلّق الأمر بالعصبية المذهبية والعرقية والشخصية، فلا مكان للبراغماتية في عقل أردوغان. عندما يحني رأسه أمام عاصفة مُقبلة، ومن ثم يُعاود استئناف هجومه من دون التخلّي عن هدفه الرئيسي، فهذا ليس براغماتية بل دهاء ومكر.

أراد أردوغان أن ينتقم أشدّ الانتقام من صورته المنكسرة بعد الانقلاب العسكري، وأراد الانتقام أشدّ الانتقام من فشل مشروعه في المنطقة. رفع مستوى التحدّي والنبرة المعطوفة على تحرّك ميداني في سوريا، ومن ثم العراق.

وضع أردوغان أوراقه دفعة واحدة، لأنها المعركة الأخيرة: الجيش التركي للمرة الأولى هو رأس الحربة. يتحدّثون عن «الفصائل السورية المدعومة من الجيش التركي» في سوريا. في الواقع، هو الجيش التركي المتلطي خلف قشرة هذه الفصائل. نحن أمام قوات تركية مُباشرة على الأرض. احتلت جرابلس وكل الشريط الحدودي من عين العرب (كوباني) إلى عفرين. ومنذ اللحظة الأولى، كان الهدف هو احتلال منبج والباب. لم يُخف المسؤولون الأتراك ذلك، بل أعلنوها بصراحة منذ 24 آب 2016. لذا، فإن بيان «قيادة التحالف» التابع للقوات الحليفة للدولة في سوريا عن توعّدها الجيش التركي بعدم تجاوز الخطوط الحمر على الأرض، لا معنى له. فالبيان سيئ إلى أقصى حد. فهو يعني أن قيادة المحور لم تقدّر أن الجيش التركي سيصل إلى الباب أو منبج، أو أنها انخدعت بوعود تركية معينة تمّ تجاوزها. كما أن البيان، الذي كان يُفترض أن يصدر شبيه له منذ لحظة دخول تركيا إلى جرابلس، وبالتالي التصدّي لجيشها لحظة دخوله وليس بعد شهرين، يعترف ضمناً بأن «قيادة التحالف» كانت «تغضّ النظر» عن لحظة الدخول تلك، وما حملته تلك اللحظة من معادلات ميدانية خطيرة ومكاسب لتركيا لن تتخلّى عنها بسهولة، بل ربما تتطلّب مُواجهات وحروبا، وما قد تحمله من مُساومات على حساب السيادة والهوية تُعيد النظر فعلا، كما يرغب أردوغان، في الكثير من الاتفاقيات والوقائع الراهنة.

الآن، خطر أردوغان على سوريا والعراق أكبر من قبل. أردوغان تهديد جدي للغاية لسلام واستقرار المنطقة ولوحدة سوريا والعراق. فشرط السيطرة على شمال سوريا وشمال العراق هو تقسيم البلدين، ليكون كلام تركيا لدى دخول جرابلس عن منع وصل «الكوريدور» الكردي للحفاظ على وحدة سوريا، مجرد نفايات في مستوعب المهملات. يُضاف إلى ذلك، أن هذه الخطورة أكبر من قبل لأنها صادرة من أسد جريح، بسبب الانقلاب وبسبب فشل مشروعه الإقليمي. لذا، فرغبة الانتقام لديه تكون أكبر.

يُريد أردوغان أن يتجاوز أتاتورك بل كل السلاطين العثمانيين. يُريد أن يكون فاتح الموصل وفاتح حلب. ولا يتورّع من أجل هذا الهدف عن إدخال المنطقة في صراعات تاريخية لا تنتهي. وما لم تنته المعركة مع أردوغان في حلب والموصل إلى هزيمة حاسمة له، فإن الشمال السوري كلّه، كما جانب من الشمال العراقي، سيكون تحت النفوذ التركي، إن لم يكن تحت الاحتلال المباشر. ولاحقاً، سيتمّ التعامل مع هذه المناطق من جانب أنقرة، تماماً، كما تعاملت تركيا مع لواء الاسكندرون بعد الحرب العالمية الأولى، والذي انتهى إلى إلحاقه بتركيا في العام 1939.

نقول كل الشمال السوري، لأن الخطة التركية لن تقتصر على جرابلس والراعي ودابق. هدفان أساسيان لها: شطب الهوية الكردية في سوريا من خلال احتلال كل الشريط الحدودي السوري من الإسكندرون إلى الحدود العراقية، والعمل على إسقاط حلب، إذا أمكن، أو الحصول على تنازلات سورية أساسية تحمي الحضور والنفوذ التركي في شمال سوريا.

وفي الواقع، إن تركيا، التي رفعت في عملية جرابلس شعار تنظيف «داعش»، تجاوزت هذا الهدف إلى منع وصل الأكراد كانتوناتهم ونجحت في ذلك، ومن ثم التحضير الآن، والإشارات كثيرة ورسمية، لاحتلال كانتون عفرين ومعه كوباني وتل أبيض والجزيرة.

وتعمل تركيا على ذلك بخطة مزدوجة خارجية، باتت مُعلنة ومعروفة، وداخلية تستهدف قطع دابر القوة الكردية في الداخل عسكرياً وسياسياً.

عسكرياً، تُواصل القوات التركية ضرب مواقع حزب «العمال الكردستاني» داخل تركيا. أما سياسياً، فتعمل على رفع الحصانة عن النواب الأكراد واعتقال رئيسة بلدية ديار بكر، النائبة السابقة غولتين قيشاناق قبل أيام، وإقالة رؤساء 30 بلدية كردية كبيرة، والعمل على إجراء انتخابات نيابية مبكرة تسحق حزب «الشعوب الديموقراطي» الكردي وتشطبه من الخريطة. وهو ما يُحذّر منه كثيرون داخل تركيا نفسها، ويرون أن أردوغان بهذا «المشروع المجنون»، كما أسمته صحيفة «جمهورييت»، يأخذ تركيا، قبل غيرها، إلى الحرب الأهلية والتقسيم.

لا يُريد أردوغان أن يُكرّر في سوريا، تجربة شمال العراق الكردية الفدرالية، ذاهباً حتى النهاية، في محاولة منع هذا الخيار. من هذه الزاوية، يُستغرب جداً موقف رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني المؤيد لأردوغان، لأن سعي تركيا لضمّ الموصل، على المدى البعيد، أو حصول امتيازات، على المدى القصير، يهدف أيضاً، إلى الأطماع التاريخية، إلى مُحاصرة كردستان العراق من الشمال ومن الغرب، حيث تُلوّح تركيا باحتلال سنجار وتلعفر، ومنع القرار الكردي المُستقلّ، بما يؤسس لاحقاً، لحروب تركية ـ كردية ـ عراقية.

لا تفعل سياسات أردوغان الجديدة ـ القديمة سوى إثارة المزيد من الاضطراب والفوضى، وإراقة الدماء، وبعث الأحقاد، ونبش قبور التاريخ، وانتهاك سيادات الدول، وتمزيق المُعاهدات الدولية في كل المنطقة، مُحاطاً، عند الضرورة القصوى، بدعم الأطلسي وفي قلبه واشنطن، سواء بمزيد من الدعم أو بمزيد من التوريط.

ليس بالضرورة أن يمضي المشروع التركي إلى نهاياته بل ربما ينعكس، في ظل تعقيدات المشهد الميداني وتعدّد اللاعبين المُتناقضين، مخاطر غير مُتوقّعة وغير محسوبة على تركيا نفسها. لكن الكرة الأساسية، في مُواجهة هذا المشهد التهديدي، هي في ملعب القوى المُتضرّرة، وهم كثر وفي مُقدمهم أكراد سوريا والدولة السورية وحلفاؤها، وماذا هم فاعلون، من دون صفقات وتنازلات، لقطع دابر هذا الخطر الإنكشاري المتعطّش للتوسّع والدماء.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى