الموصل بين استراتيجية «داعش» وتخاذل «التحالف الدولي» عبد الله سليمان علي
فيما ترتفعُ سخونةُ الاشتباكات على محاور القتال في محيط الموصل وسَطَ تقدمٍ للقوات العراقية المشتركة، يبدو أن تنظيم «داعش» يسعى إلى تكريس استراتيجية تعويقيّة لإطالة أمد المعركة، وتحويلها إلى حربِ استنزافٍ ضدّ خصومه. ويأتي ذلك وسط تساؤلاتٍ بدأت تطفو على السطح عن ضعف أداء طائرات «التحالف الدولي»، وسبب امتناعها عن التدخل في العديد من مفاصل المعارك الدائرة على الجبهات المشتعلة كافة.
وفي ثاني هجومٍ من نوعه منذ بدء معركة الموصل، قام تنظيم «داعش» بالهجوم، أمس، على مدينة الرطبة غرب الأنبار، وهي تقع في نقطةٍ استراتيجية تجعلها تتوسط مثلث الحدود السورية ـ الأردنية – السعودية مع العراق. وتمكّن التنظيم من اقتحام مركز قضاء الرطبة والسيطرة على حيَّي الميثاق والحارة، حيث سارعَ إلى نشر قنّاصيه على مآذن الجوامع، معلناً عبر مكبرات الصوت «عودته إلى القضاء»، وذلك بحسب ما قال مصدر من شرطة الأنبار مضيفاً أن عناصر التنظيم يتقدمون باتجاه المستشفى العامّ وسط القضاء.
وتزامن الهجوم على الرطبة مع هجوم آخر استهدف الجزء المحرر من الساحل الأيسر في مدينة الشرقاط التي تشهد اشتباكات مستمرة منذ سيطرة الجيش العراقي على الساحل الأيمن وبعض أجزاء الساحل الأيسر الشهر الماضي، فيما بقي معظم الساحل الأيسر بيد التنظيم. وأغلب هجمات التنظيم في الشرقاط تأتي من منطقة الخانوكة جنوب المدينة المتاخمة لجبل الخانوكة الذي هو بداية تشكيل جبال مكحول. وتُعدّ جبال مكحول الممتدة بين ثلاث محافظات عراقية من أهم مخابئ «داعش» وتحوي عدداً من معسكراته ومضافاته التي يرسل منها مجاميعه المسلحة لشنّ هجمات معاكسة، كما لإرسال المفخخات عبر طريق يصل بين صلاح الدين وديالى بات يعرف باسم «طريق المفخخات».
وتأتي هذه الهجمات في الشرقاط والرطبة بعد يومين من هجوم التنظيم على أحياء في مدينة كركوك استهدف فيها بعض المواقع الأمنية والاقتصادية. وقد تضاربت الأنباء حولها، إذ فيما يؤكد مسؤولو المحافظة أن الهجوم انتهى وتم القضاء على المهاجمين، تذكر مصادر إعلامية أن بعض أحياء المدينة لا تزال تشهد اشتباكات لليوم الثالث على التوالي. كما ذكرت وكالة «أعماق» أمس أن التنظيم بدأ هجوماً آخر على المدينة، ولكن لم يظهر على الأرض ما يؤكد ذلك.
وتمثل هذه الهجمات التي يشنها التنظيم في نواح مختلفة من العراق جوهر الاستراتيجية العسكرية التي يتبعها لمواجهة معركة الموصل، وتأخير مفاعيلها ضدّه. وتنقسم هذه الاستراتيجية إلى قسمين: الأول إدارة معارك تعويقية متنوعة تشمل الهجمات المعاكسة والمفخخات وحقول الألغام والالتفاف، والثاني تخطيط تعبوي يشمل فتح جبهات قتال خارج منطقة عمليات الموصل، ومنها كركوك والرطبة، وهذه الهجمات غايتها الرئيسة تشتيت الجهد القتالي للقوات الحكومية وحلفائها واستنزافها.
ويرى العميد الركن خليل الطائي، مستشار «مركز الأمة للدراسات والتطوير للشؤون العسكرية والأمنية»، أن الاستراتيجية العسكرية العامة للتنظيم في هذه المرحلة تقوم على «إدارة أكبر ما يمكن من المعارك التي تنبثق منها تعبئة إدارة معركة دفاعية خارج المدينة تلائم أهمية الهدف (الموصل) مع مراعاة مبدأ الكلفة والتأثير. وكذلك شن هجمات تعرضية على مدن وقرى تمّ التخلي عنها سابقاً، لتشتيت الزخم الهجومي وكسر المعنويات والحصول على غنائم».
وهذا ما يؤكده الصحافي العراقي منتظر العمري الذي يعتقد أن بعض الأخطاء التي ارتكبتها القيادة العراقية سمحت للتنظيم بتفعيل هذه الاستراتيجية. وما يشير إلى أحد هذه الأخطاء هو «أن القيادة العسكرية زادت الزخم العسكري من القوات الأمنية بكافة صنوفها وتشكيلاتها على مشارف مدينة الموصل مع التقليل من متابعة ومراقبة القواطع الأخرى»، ولفت إلى أنه «كان من الأفضل أن يقوم الجهد العسكري العراقي بفتح هذه الجبهات على التنظيم ورفع حالة التأهب في كافة قواطع العمليات وفي كل خطوط الصدّ الأمامية». والجدير بالذكر هنا أن الجانب العراقي كان قد اقترح تطهير قضاء الحويجة الذي انطلقت منه الهجمات نحو كركوك قبل البدء بمعركة الموصل، إلا أن واشنطن رفضت ذلك.
وقد سبق للصحافي العراقي المستقل مروان العاني تأكيد خطورة الحويجة في مقالة نشرها «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، لفت فيها إلى أن «طبيعة الحويجة ومكانتها الجغرافية تجعلانها في المركز الثاني بعد الرقة، من حيث أهميتها بالنسبة لـ «داعش». فهي مدينة صغيرة، لكنها تضم أكثر من 300 قرية، تم بداخلها تجميع مقاتلين أجانب، وضباط سابقين، وعناصر مجندة تم تشكيلها من الصغار. من ثم، فالأهمية الجغرافية للـ «حويجة» تفرض على الجميع إعطاءها الأولوية».
وليس هذا الانتقاد هو الوحيد الذي توجهه بعض الأوساط العراقية إلى واشنطن وسياساتها في إدارة معارك العراق ضد تنظيم «داعش». فقد تبين مع انطلاق الشرارة الأولى لمعركة الموصل أن التغطية الجوية التي تؤمنها طائرات «التحالف» الذي تقوده واشنطن، ليست كافية، بل «مخيبة للآمال» بحسب تعبيرات بعض المسؤولين العراقيين، مثل النائب مشعان الجبوري. كما نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن أحد المسؤولين الكرد الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع، أن الدعم الجوي كان «محدوداً جداً»، وقد تكبدت القوات الكردية خسائر فادحة نتيجة لذلك عندما فتحوا جبهة جديدة يوم الخميس الماضي.
ويرى الناشط العراقي حاتم الخفاجي أن هذه الخيبة مقصودة، بل تعبّر عن سياسة «التحالف الدولي» منذ نشأته، مشيراً إلى عدم جدية هذا التحالف في محاربة «داعش». والدليل هو الخطة العسكرية المتفق عليها من قبل العراق والتحالف الدولي، وتتضمن ترك الطريق المؤدي الى الرقة السورية مفتوحاً أمام قادة داعش ليتمكنوا من الفرار. أما منتظر العمري فيعتقد أن الأمر لا يقتصر على عدم جدية التحالف في محاربة التنظيم، بل هناك غايات أخرى يسعى التحالف لتحقيقها، منها «الضغط على الحكومة العراقية لتقديم تنازلات الى تركيا حتى تشارك قواتها الموجودة في معسكر بعشيقة بعمليات تحرير الموصل وما يؤكد ذلك زيارة كارتر لأنقرة وبغداد». ومن غايات «التحالف» أيضاً بحسب كلامه «فرض اختبارات على القوات الأمنية العراقية وإرسال رسائل لبعض الأطراف على الأرض ومحاور الصراع في المنطقة بأن طيران التحالف في المعركة مهم جداً، ولا يمكن إحراز نصر أو الحفاظ على منطقة من دونه».
ويشرح العميد الركن خليل الطائي استراتيجية واشنطن بهذا الخصوص بقوله إن «استراتيجية الحرب الأميركية تسير وفق غايتين: الأولى تحقيق النصر السريع لتعزيز موقف الحزب الديموقراطي في انتخاباته المقبلة، والثانية إعادة انتشار القوات الأميركية في العراق أي «عودة الاحتلال». ولتنفيذ هذه الاستراتيجية، سارعت واشنطن الى تأليف حشود عددية وتسليحية كبيرة، لكنها غير متجانسة وإن بدت متفقة شكلياً. وبحسب الطائي، فإن واشنطن تدرك جيداً أن بعض الاتفاقات مثل الاتفاق بين بغداد وإقليم كردستان سرعان ما ستنهار بعد انتهاء المعركة، لهذا هي تحاول أن تمسك وتسيطر على جميع أطراف المعركة.
(السفير)