بقلم ناصر قنديل

ثلاثة مسارات أميركية متزامنة

ناصر قنديل

– معانٍ هامة حملتها العودة الأميركية إلى المحادثات المشتركة مع روسيا حول سورية، وتزخيمها من خلال الدعوة المشتركة لاجتماع لوزان، الذي ابتكر إطاراً موازياً لمسار فيينا، لكن لعدد أضيق من المشاركين، أي أنه ليس موعداً روتينياً يستدعي الحضور بل إطار جديد مبتكر لتفعيل التفاهم، وجد هو الآخر ترجمته في اجتماع الخبراء القائم منذ أيام في جنيف، والذي يشارك فيه مع الروس والأميركيين ضباط سعوديون وقطريون وأتراك هو مشغِّلو الجماعات المسلحة المعنية بالفصل عن جبهة النصرة في التفاهم الروسي الأميركي الذي سبق نعيه من كل من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع في واشنطن، وسط بيانات عن البيت الأبيض تتحدّث عن بدائل غير دبلوماسية وتلمّح بالخيار العسكري.

– أهم هذه المعاني هي أن الإدارة الأميركية المنتهية الولاية لا تتصرف على قاعدة ترك الملفات العالقة، خصوصاً مستقبل الحرب في سورية كواحد من الملفات المؤجلة للإدارة المقبلة، وإلا فلا مبرر لاستئناف المساعي والمحادثات وابتكار مبادرات واجتماع خبراء، بل البقاء في المنطقة الرمادية، كما كان الحال قبل العودة للمحادثات وتزخيمها بمبادرة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا حول خروج جبهة النصرة من حلب، التي كتب نصها المعاون السياسي للأمين العام للأمم المتحدة الدبلوماسي الأميركي المخضرم جيفري فيلتمان. كما يتقدم هذه المعاني سقوط الخيار العسكري كواحد من البدائل، بل كسلاح حرب إعلامية للتهويل أو لرفع السقوف التفاوضية، ليصير التسليم بالقلق من حسم عسكري ينفذه الجيش السوري بدعم من الحلفاء وتوفر موسكو له الغطاء الناري، هو المحرك الرئيسي للمواقف الأميركية على قاعدة قبول التسليم بحقيقتين ثابتتين لا يمكن توقع التقدم السياسي بدونهما، الأولى أن النصرة باتت هدفاً مشروعاً للحرب ولم يعد ممكناً الرهان على تعويمها، والثانية أن الدولة السورية كمرجعية مؤسسية باتت عنوان مستقبل سورية السياسي والعسكري ومن ضمن مؤسساتها وتحت سقف دستورها يمكن فقط للمساعي السياسية والعسكرية أن تبصر النور وتحقق التقدم.

– الحركة الأميركية المحكومة بهذا العامل الضاغط في حال سورية تتكرّر في حال اليمن، حيث لا أمل بإنعاش عناصر القدرة السعودية في الحرب، ولا أفق لتغيير موازين هذه الحرب، التي تحوّلت عبئاً بلا أمل يُرتجى، وسط ضيق مالي وعسكري تعانيه السعودية، واضطراب في قواتها المسلحة وثباتها عبر الحدود مع اليمن، وتورطها بجرائم حرب لم يعد ممكناً توفير الغطاء لها. فتعود الحركة الأميركية من بوابة التفاهمات ومحورها مبادرة وزير الخارجية الأميركية جون كيري التي تتضمّن تسليماً بقيام حكومة موحدة كمدخل لتطبيق بنود القرارات الأممية، بعيداً عن لغة العنتريات السعودية السابقة عن تسليم المدن والسلاح، «وبعدها نتحدّث في السياسة». وهذا معنى الدفع باتجاه إحياء الهدنة في اليمن بالتزامن مع السعي لتكريس الهدنة في شرق حلب وتمديد مهلتها، من ضمن التسليم الأميركي المزدوج بالوقائع والحقائق الجديدة في اليمن وسورية.

– يتزامن هذا التسليم الأميركي مع مسعى فرض الوقائع المرتبطة بالمصالح الأميركية، عبر رسائل عسكرية مشفرة تراهن أميركا وتأمل أن تتمكّن عبرها من بدء مفاوضات موازية مع كل من الدولة السورية والقيادة اليمنية الوطنية، فهي تعلم أن المسار السياسي الذي ينتهي بالاحتكام لصناديق الاقتراع لن يمنح جماعاتها في سورية واليمن، إلا حضوراً رمزياً، وبالتالي فالتعاطي سيجري مستقبلاً مع حكم نواته مناصرو الرئيس السوري في سورية وثنائي أنصار الله والمؤتمر الشعبي في اليمن، من هنا تجد واشنطن سيناريو التزامن بين التسليم بالسير في تكريس معادلة تعاكس مصالح جماعتها، والاعتراف بها، مع السعي لفتح قنوات تفاوض مع هذه القيادات في سورية واليمن بالرسائل العسكرية المشفرة التي تلقاها السوريون بين سطور الغارة الأميركية على دير الزور، وتلقاها اليمنيون مع الصواريخ التي تساقطت على سواحلهم بذريعة الرد على استهداف غامض لم يثبت لمدمّرات أميركية قرب باب المندب وفي البحر الأحمر، والواضح أن واشنطن تسعى للحصول على امتيازات أمنية في سواحل اليمن وشرق سورية ترفضها قيادات البلدين، ما يجعل مسارات التهدئة غير مستقرة وعرضة للجذب والشد بتقطع.

– يتلاقى هذان المساران المتعرجان مع تقدم روزنامة الانتخابات الرئاسية الأميركية والحاجة لقيام الإدارة الحالية بما يلزم لتزخيم فرص المرشحة الرئاسية للحزب الديمقراطي، رغم حظوظها العالية بالفوز، لذلك يسرع الأميركي بمعركة الموصل، ويسعى لجعلها الحدث الأبرز في الشرق الأوسط للأيام الفاصلة عن موعد الانتخابات، ما يستدعي إطفاء النار الملتهبة في حريقَي سورية واليمن، وإطفاء الأضواء عنهما بتبريد الجبهات ومنح جرعات إضافية لخيارات التهدئة.

– إدراك تداخل وتشابك هذه المسارات الثلاثة يمنح القيادتين السورية واليمنية ومعهما القيادة العراقية الفرص لفرض شروط وتنازلات على واشنطن، التي فرغت يدها من الخيار العسكري، ولو من باب التهويل، وسقط من حسابها الرهان على توظيف مزدوج للحروب، ولا تملك أوراق قوة لفرض الامتيازات التي تطلبها، مقابل الاستعداد للرضا بضمان المصالح، الذي تعرضه سورية واليمن دون التهاون في الشؤون السيادية، فيظهر التهديد السوري لتركيا كعلامة على ذكاء التوقيت في إدارة روزنامة الحرب ومقتضياتها، وواضح أن الأتراك الملتحفين بالأميركيين، يلعبون في مناطق الفراغ، غرب الفرات وشرق دجلة، وفي الوقت الفراغ ما قبل الحسم السوري والعراقي استطراداً.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى