بقلم ناصر قنديل

كلمات تأمل الوقوع تحت أعين قارئة شكوى للرئيس بري والسيد نصرالله منهما

ناصر قنديل

– يبدو ظاهر الخلاف المستحكِم حول الرئاسة اللبنانية مقلوباً في كلّ مرة، ففي الوقت الذي يسلّم الجميع بأنّ التموضع على ضفاف الاستحقاق الرئاسي للأطراف اللبنانية يستحيل تحييده، كمجرد اجتهاد نظري في البحث في المواصفات والمؤهلات، عن اصطفافات تتخندق حولها هذه الأطراف في صراع إقليمي ودولي يسلّمون بأنه الأقسى والأشرس والأشدّ مصيرية في المنطقة والعالم منذ الحرب العالمية الثانية، تبدو الاصطفافات في الملف الرئاسي عابرة لخطوط التماس التي تفصل الأطراف اللبنانية في قلب الصراع الإقليمي والدولي الدائر حولنا والمنغرس في بيوتنا، صور شهداء تقدّمهم المقاومة بالنيابة عن شعبها، ولكن بالأصالة عن نفسها وحلفائها انتصاراً لخيار يجمعون معها عليه، عنوانه انتصار سورية وحماية المقاومة وقدرتها على الردع وردّ العدوان، وتخليص لبنان من خطر توغّل الإرهاب وتجذّره وتحوّله لاعباً داخلياً.

– خلط الأوراق الناتح عن كلّ محطة من محطات الاستحقاق الرئاسي، يظهر أيضاً عابراً في إرباك التحالفات التي تنسجها هذه الأطراف، وفقاً للخيارات الكبرى التي تلتزمها تجاه ما يجري في المنطقة والعالم، لكن اللافت هو أنه في كلّ مرة يحدث هذا الخلط للأوراق، يبدو الرئيس سعد الحريري الذي يتربّع على رأس الحلف الداخلي الأشدّ التصاقاً بالحلف الإقليمي المناوئ للمقاومة، الذي تتربّع السعودية على قمة قيادته، كصانع للمفاجآت، ومصنع للألعاب، وموزع للطابات، وتبدو ضفتا الانقسام اللبناني في الفريقين المتقابلين عرضة لتلقي تردّدات هذه المفاجآت والطابات، وإذا كان صحيحاً أنّ مبادرات الحريري لا تتأتى من موقع القوي القادر على إدارة الألعاب وصنع السياسات المرتاح لوضعه، ولا من انتصارات يحققها حلفاؤه الإقليميون، بل من موقع العكس تماماً، موقع التضعضع في بنيته وشعبيته ومصادر تمويله، ووصول مشاريع الحلف الدولي الإقليمي الذي ينضوي الحريري تحت لوائه إلى طريق مسدود، وبلوغ حروبه نهاية الجدار، فإنّ مقاربات الحريري الآتية من هذا الموقع بحثاً عن تفادي المزيد من الخسائر، والبحث عن مخارج من قلب خيارات خصومه، حلفاء المقاومة، الذين ينتصر حلفهم الإقليمي والدولي، لا تنفك أن تتحوّل مأزقاً وانقساماً، وتفككاً وحروباً غير معلنة ومعلنة بين أطراف هذا الحلف، الذي يظهر هشاشة وعجزاً عن تسييل انتصاراته وقطف ثمارها، عندما تينع هذه الثمار.

– ليس مهماً كيف حدث، ومَن هو المسؤول، يكفي أنّ المقاربة الأولى للحريري نحو ترشيح النائب سليمان فرنجية للرئاسة، أصابت حلف فرنجية ومناصريه مع المقاومة بأزمة ثقة، وفجّرت خلافاً نائماً بين النائب فرنجية الحليف التاريخي والموثوق للمقاومة وسورية والمحبوب من حلفائها، وبين التيار الوطني الحر وزعيمه العماد ميشال عون المقدّر عالياً لمواقفه وثباته في خيار الوقوف مع المقاومة وسورية، والذي يحظى بتقدير لا حدود به للتحوّل الذي أحدثه في شارع تعرّض تاريخياً لمحاولات نزعه من هويته المشرقية وترويضه ليكون مجرد جالية غربية في بلاد المشرق، فنقله العماد عون إلى حيث تسبح أفكار التحرّر والمقاومة والهوية المشرقية والعربية، والتجذّر في الأرض، والعداء لـ «إسرائيل» والتحرّر من عقدة الأمومة الغربية والوصاية الأجنبية. ولا يمكن لأحد أن ينكر أنّ هذه الحرب التي قامت منذ شهور لا تزال مستمرة، وتبلغ ذورتها، وتفتّ في عضد شارع واحد يفترض أن يكون متماسكاً حول خيارات واحدة، كيف وأنّ هذه الخيارات المتصلة بالهوية والمصير تنتصر، وإذ بنا نعيش لحظات دعوة هذا الشارع لينتصر بعضه على بعضه وتضييع لحظة الانضمام للانتصارات الكبرى التي يفترض أنه جزء عضوي منها، وأنه شريك بصموده وثباته في صنعها، والأهمّ أنها الانتصارات التي جلبت الخصوم إليه، سواء بترشيح الحريري لفرنجية أو لاحقاً بترشيحه لعون.

– كان خطاب فرنجية الذي يظلّ أحد الخيارين بين حلفاء المقاومة قبل ترشيح الحريري لعون يقوم على أنّ ترشيح الحريري لفرنجية هو انتصار نادر سيتمّ تضييعه بالإصرار على التمسك بترشيح عون من جانب حزب الله، وأنّ الحريري لو بقي البلد بلا رئاسة يستحيل أن يسير بترشيح عون، بينما كان خطاب حزب الله يقول إنّ الذي جاء بالحريري لترشيح فرنجية سيأتي به بمزيد من الصبر لقبول ترشيح عون. وفي الحصيلة ها نحن أمام النتيجة تتحدّث عن نفسها، لنكتشف أنّ الشق الأول من الانقسام كان هدراً للطاقة والمعنويات والتماسك السياسي والشعبي، واستنزافاً للسمعة السياسية لفريق يتّسم بالنضج والقوة ويحقق محوره الإقليمي الدولي الانتصارات، فيبدو كمن يخوض حرب حياة وموت على تقاسم الغنائم، بينما في المقابل قام خطاب التيار الوطني الحر في مناهضة ترشيح فرنجية على التمسك بعنوانَي السلة التي تتضمّن قانون الانتخاب، وصحة التمثيل والغمز من قناة صفقات ثنائية وتعهّدات والتزامات قدّمها فرنجية للحريري، ما كان لولاها ليتمّ الترشيح، وها نحن بعدما جاء الحريري أشدّ ضعفاً وحاجة من ذي قبل ليقبل ترشيح عون نعجز مرة أخرى عن هضم الانتصار، فمن يتّهم عون بفعل ما لم يفعله فرنجية، هو شريك المقاومة وليس حليفها فقط، وهو المؤتمن من أهل خيارها وحلفائها على إدارة اللعبة السياسية والتفاوضية، في زمن الحرب وزمن السلم، خصوصاً في إدارة شؤون الدولة، فعندما يخرج الرئيس نبيه بري ليرفع الصوت إلى حدّ القول إنه لن يمنح تصويت كتلته النيابية للعماد عون، مضيفاً مضبطة اتهام تتضمّن الإشارة لالتزامات متبادلة بين عون والحريري تبدأ من ثنائية التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية مسيحياً وأحادية الحريري في طائفته، ولا تنتهي بتمرير قانون الستين للانتخابات النيابية والاتفاق على آلية للتعيينات في المناصب الحساسة للدولة، يصير السؤال مشروعاً، عن صحة وقوعنا بوهمَيْن: وهم أنّ المهزومين يأتون إلينا منتصرين، وعلينا إغراؤهم بالمكاسب ولو على حساب قيم التحالف، ووهم أنّ التسرّع في قطف أحادي لثمار النصر شطارة، ويمكن أن يمرّ.

– المأزق الرئاسي يلقي الضوء على ما هو أخطر منه. وهو سيطرة اللاسياسة على المشهد، السياسة بمعناها العميق كمفهوم لبناء الدولة، وإقامة التحالفات، وإدارة الخلافات، السياسة التي لا يثبت البراعة فيها الفوز بإدارة التحالفات التكتيكية بين حلفاء استراتيجيين، أو إدارة خلافات تكتيكية بين خصوم استراتيجيين، بل تثبت براعتها بإدارة الأحلاف التكتيكية مع الخصوم الاستراتيجيين، وإدارة الخلافات التكتيكية بين الحلفاء الاستراتيجيين، وهذا هو التحدي.

– اللاسياسة هي أن يصير التيار الوطني الحر جزءاً من تفاهمَين متوزايين بالقيمة لدى جمهوره، تفاهمه مع حزب الله، الذي لولاه لما جاء الآخرون إليه، وتفاهمه مع القوات اللبنانية، التي لا تلتقي معه في السياسة بشيء، والتي ستنال من عائدات تفاهمها جوائز دعمها لخياره الرئاسي، بينما سيُعاقَب الحلفاء الذين يلاقون التيار بكلّ الخيارات الكبرى وكان لهم رأي خاص مختلف بالخيار الرئاسي، لكنه بقي مجرد رأي، لم يترجموه إلى فعل احتراماً لمكانة التحالف مع المقاومة وحزبها، وثباتها مع خيار العماد عون الرئاسي. وها هو التيار يضيف تفاهماً ثالثاً مبهماً مع تيار المستقبل، وبالتدريج يصير موازياً للتفاهمين السابقين. وفي المقابل يصير الحريري وتياره قبل ترشيح عون رمز الإخلاص والوفاء عند جمهور تيار المردة ويصير الغمز من صدقية المقاومة ووفائها للحلفاء، واللاسياسة تظهرها المشاعر فهي التي ترسم معنى التحالفات، وليست خطابات القادة التي تخضع عموماً للتنميق، فنسأل أليس صحيحاً أنّ جمهور التيار الوطني الحر يحمل للحريري اليوم مشاعر الودّ وللرئيس بري مشاعر العداء، وفي المقابل ألا نقرأ ما يُكتب على صفحات التواصل من جمهور الفريقين، كلّ بحق قائد الآخر من تعابير يندى لها الجبين؟

– العودة للسياسة هي عودة للرشد وإثبات للنضج، لأنّ ما يجري مراهقة مخجلة، والتفوّق على الخلافات وحسن إدارتها هما علامة جدارة في حال الهزيمة، فكيف في حال النصر، والمفتاح هنا كي لا نحمّل العماد عون والنائب فرنجية ما يزيد عن طاقتهما، المفتاح بين سيد المقاومة والرئيس نبيه بري، اللذين بتفاهمهما يُحفظ الجميع وتُحفظ الجبهة الحامية للمقاومة، وبخلافهما ستسقط هذه الجبهة مهما قالا لنا إنّ كلّ شيء تحت السيطرة، وإنّ الخلاف لا يفسد في الودّ قضية. فالخلاف هنا يفسد ويدمّر، إنْ تفاهمتما ستحفظان الحلفاء جميعاً، العماد عون والنائب فرنجية، وسيكون للدولة ميثاق يحميها ويحفظها من الثنائيات والثلاثيات، ورئاسات وحكومة ومسؤوليات تحقق الشراكة وتحفظ التضحيات، وإنْ تعثّر التفاهم سنصير وتضحياتنا هباء منثوراً مهما سمعنا جميل الكلام.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى