حلب: متى يُفتح باب الفرج؟ إيلي حنا, صهيب عنجريني
لسنوات طويلة صارعت حلب الحرب. صحيحٌ أنّها لم تهزمها بعد، لكنّها لم تنكسر أمامها أيضاً. «الأمر الواقع» قسم المدينة بين «أحياء شرقية» تحت سيطرة المسلّحين، و«غربية» تحت سيطرة الدولة السورية. السكان في كلا الطرفين دفعوا من دمائهم ثمناً باهظاً، وما زال الجميع يُمنّي النفس بأن يقطف «الفرج» ثمناً لصبرٍ طال كثيراً
حلب | تخترق السيارة الأوتوسترادَ بين عشرات الشاحنات والحواجز. البادية الممتدة على الجانبين تُضفي نوعاً من السحر الغامض على المشهد: شريان حياة بين «ضفّتي» خطر.
طريق «أثريا ــ خناصر ــ حلب» المشهور بإغلاقه المتكرر بفعل هجمات المسلحين يواصل اليوم إغراق المدينة بالمسافرين والبضائع، ويبدو أنّ إخراجه من الخدمة بات شبه مستحيل. منذ حوالى شهر صارت لهذا الطريق مواعيد إغلاقٍ وفتحٍ يومية مُنتظمة: يُسمح بمرور آخر السيارات قُرابة الثامنة مساء، ليعاد فتحُه في الثامنة من صباح اليوم التالي. تنظيم الحركة بهذه الطريقة يبدو أحد الإجراءات المتّبعة لوضع حد لجرائم الخطف والنهب التي لطالما أرّقت أبناء حلب. عشرات الحواجز الثابتة و«الطيّارة» التي كانت تحترف تلك الجرائم تحت اسم «الدفاع الوطني» لم يعد لها وجود، وعُهد بالطريق إلى الجيش وحلفائه. هنا تُطالعك الحرب السورية بتلاوينها: نقاط الجيش السوري وأخرى لـ«الأصدقاء» (التسمية التي ستسمعُها كثيراً في حلب كنايةً عن حلفاء الجيش). «داعش» عن يمين الطريق و«النصرة» وأخواتها يساراً. الطعام والدواء والمقاتلون يعبرون من هنا إلى مناطق سيطرة الدولة السورية في «أخطر مدنِ العالم»، فيما تشحّ المخازين في الأحياء الشرقية الآخذة بالخروج عن سيطرة المسلّحين تدريجيّاً بعدما أُحكمَ «الطوق» وانعدمت الموارد.
تُخلّف البادية وراءَك لتصل السفيرة (بتسكين السين) حيث «معامل الدفاع» الشهيرة. يلزمك أقلّ من نصف ساعة بعدها لتصل إلى المنطقة الأكثر شهرة في الأسابيع الماضية: الراموسة، حيث لا شيء سوى الدمار و«طريق آمن» إلى الجزء الغربي من حلب، ومغلق بالكامل إلى الجزء الشرقي. على وقع «الحرب العالمية» التي دارت في هذه البقعة كان وزير الخارجية الأميركي جون كيري قد كرّر عشرات المرّات الحديث عن «معبر الراموسة»، ليردّ نظيره الروسي سيرغي لافروف من الكاستيلّو! هل يعلم رئيس الدبلوماسية الروسية أنّ ما يتكلم عنه هو مطعم اتّخذ الطريق اسمه شعبياً؟ مجرد مطعم مُقفل من سلسلة معامل وفنادق ومعالم محتها الحرب. بعد الراموسة، التدقيق في حجم الدمار يستمر لدقائق قبل أن تنتقل إلى «حلب أخرى». تخزّن المشاهد السابقة في ذاكرتك، لتفتح عينيك على أخرى مكثفة وسريعة. الشوارع تضجّ بحركة الناس في المقاهي والأسواق. رغم ذلك يبدو البحث عن رقعة أمانٍ أمراً صعباً.
الحرب لا تُفسد
لـ«النظافة» قضيّة
الاكتظاظ هو السّمة الأبرز لمعظم الأحياء الغربيّة. من الفرقان إلى الأعظميّة والجميليّة وغيرها تجنّب الازدحام يبدو مهمّة مستحيلة. لا يُعير الحلبيّون اهتماماً كبيراً لأصوات آلة الحرب التي لا تهدأ، الجميع «تاركها على الله» وماضٍ في تدبّر أمور حياته التي قد تنتهي في أي لحظة. في حيّ الجميلية (حيث القذائف تضرب موعداً شبه يوميّ) يُمكنك أن تبتاع كل ما يلزمُك وأنت تعي أنّ القذيفة «المنتظرة» جزء من المجازفة المعتادة. لا بأس، ما دام الأهالي يعيشون «كل يوم بيومه».
تواصلُ البسطات احتلال الأرصفة والطرقات، الباعة ينادون على بضائعهم: السمك بجانب الألبان ومشتقّاتها والخُضر والفواكه والثياب والمُنظفات. عشرات الأنواع من المنظفات المصنّعة محليّاً والمعبّأة في أكياس عادية من النايلون الشفاف ما زالت قادرة على توفير خيارات واسعة لربّة المنزل الحلبيّة التي تشتهرُ (من ضمن صفات أخرى كثيرة) بهوسها بكل ما يتعلق بالتنظيف والنظافة. للوهلة الأولى ستبدو وفرة الخيارات أمراً غريباً، لكنّ من خبِر حلب وأهلها لن يكون متفاجئاً، فالحربُ التي دمّرت آلاف المصانع لم تستطِع أن تُدمّر العقلية الحلبية المولعة بـ«ابتكار الحلول». تصنيع مواد التنظيف مثلاً لا يحتاج في نظر أبو عبدو إلى أكثر من «شقفة من جنينة البيت (المُستأجر)، وكم برميل، وشوية مواد. إشو هي كيميا؟»، نضحكُ ويضحك معنا، فهو يدرك تماماً أنّها بالفعل «كيميا»، لكنّها أبسطُ من أن تستعصيَ على أبناء مدينة نالت بجدارةٍ لقب «يابان سوريا». انعكاس «هوس النظافة» على المدينة بالعموم يبدو أمراً بديهياً، وباستثناء اكوام الأتربة التي قد تطالعُك هنا أو هناك فإنّ نظافة الشوارع والأحياء لم تتأثّر بكلّ ما تشهدُه المدينة.
«مَي عطيني… وفي الحرب ارميني»
الكون تشغله حلب فيما أهلها يبحثون عن ليترات من الماء وآمبير كهرباء وعودة آمنة إلى منازلهم. وعلى امتداد سنوات الحرب اعتادت المدينة أن تكون دائماً في انتظار خبر/ بشرى. الخبر المرتقبُ كان قبل أسابيع قليلة يتعلق بالماء والكهرباء فحسب، لكن مع اشتعال المعارك حول طريق الراموسة – شريان الحياة مع «الخارج»، واشتداد المعارك في الأحياء الشرقية أضحى الترقب مزدوجاً، وخاصة مع ارتباط وجود المياه بالمحطّة الرئيسية الواقعة تحت سيطرة «جبهة فتح الشام/ النصرة» في حي بستان الباشا.
«إن شاء الله بتنحلّ قصة الميّ اليوم؟» يسأل رجلٌ خمسينيّ مجموعة متطوعين يستعدون لإدخال المازوت نحو محطة المياه، فيما عناصر «النصرة» مستنفرون على بعد عشرات الأمتار. كان من المفترض أن يجري إدخال المازوت قبل ساعتين، بعدما أفلحت وساطةُ «مبادرة أهالي» في الوصول إلى اتفاق بين جميع الأطراف يضمن إدخاله لتشغيل مولّدات الديزل وتشغيل المحطة المتوقفة منذ فترة في ظل انعدام موارد الكهرباء، لكنّ العراقيل رافقَت العمليّة «حتى آخر نَفس» كما يحصل في معظم المرات. لا تبدو القضية سهلة التحقق، والمستفيدون من ذلك كثر. صهاريج المياه الدخيلة على المدينة تجوب أحياءها لتسدّ حاجةً فرضتها الحرب. وعلى أعمدة الكهرباء تتوزع علب اشتراكات المولّدات، وهذه حكاية أخرى من مآسي الحلبيين و«الآمبيرات». في ساعة متأخّرة من ذلك اليوم نجحت الوساطة أخيراً، وتمكّن المتطوّعون من الحصول على «دخول آمن» لمواكبة تفريغ المازوت وتشغيل المحطّة، لتستيقظَ المدينة صبيحة اليوم التالي على «عودة المياه إلى أنابيبها» من دون أن يغامر أحد في التفاؤل باستمرار الحال هكذا.
هل تدقّ «ساعةُ الفرج»؟
قبل أن تحطّ الحرب رحالَها هنا، كان حيّ باب الفرج الشهير جزءاً أساسياً من «وسط البلد». لم تُبقِ الحرب شيئاً من ازدحام «السنين الخوالي». تدريجياً تحوّلت المنطقة إلى خط تماس يفصلُ بين مناطق سيطرة المسلّحين في أحياء المدينة القديمة، ومناطق سيطرة الدولة السورية. وبالتناسب مع تزايد أعداد القذائف والصواريخ الآتية من الأحياء الشرقيّة بدأت وتيرة الحياة في الانخفاض على امتداد المساحة ما بين مدخل سوق «التّلل» الشهير مروراً بباب الفرج وصولاً إلى باب الجنان (يلفظها الحلبيون: باب جنين). ساعة باب الفرج الشهيرة متوقّفة، مع أضرار بسيطة طاولَتها. تجاوز عمر برج الساعة حاجز المئة عام، ويعود بناؤه إلى عام 1900 في عهد السلطان عبد الحميد. ويُقال إنّ الساعة أُنشئت «بمناسبة زيارة إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني مدن السلطنة»، وفي رواية أخرى «بمناسبة مرور ربع قرن على اعتلاء السلطان عبد الحميد العرش». المؤكّد اليوم أنّ حلب لم تعُد من «مدن السلطنة البائدة»، ودفعَت أثماناً باهظة لتبقى بعيدة عن «حلم السلطنة الجديدة». لا وجود لباب الفرج بمعناه التاريخي، فالباب الذي كان واحداً من أبواب المدينة العريقة كان قد هُدم قبلَ أكثر من قرن.
رغم ذلك يواصلُ الحلبيّون تشبثّهم بالأمل بـ«فرَجٍ قريب»، لا يثنيهم عن ذلك بابٌ زائلٌ ولا ساعةٌ متوقّفة. على بعد أمتار من برج الساعة يقبعُ بناء «دار الكتب الوطنيّة». والدار عبارةٌ عن مكتبة عامة مساحتها حوالى 600 متر مربع من طابقين: العلويّ مخصص للمطالعة العامة، ويحوي أكثر من مئة ألف كتاب، والسفلي يحتضن مسرحاً يتسّع لقرابة 300 شخص. بطبيعة الحال تبدو الدار شبه مهجورة، أمّا السؤال عن حال الكتب اليومَ، فيحظى بجواب مُتوقّع «ما حدا سائل». لا هي نُقلت إلى مكان آخر، ولا هي خضعت لإجراءات حفاظيّة على الأقل، وما زالت متروكةً لمصيرها.
المدينة القديمة
من حي «بحسيتا» التاريخي الشهير وصولاً إلى قلعة حلب، مروراً بالجامع الأموي وخان الوزير: لا شيء سوى الدمار. مع كل خطوة تقطعُها أنت تدوس جزءاً من «التراث الانساني»، لكنّ التصنيف الذي حظيت به المدينة قبل عشرات السنين على قوائم اليونسكو لم يشفع لها، تقدير الخسائر يبدو ضرباً من المستحيل سواء بالمعنى المادي أو الانساني. حتى وقت قريب كانت الأسواق التاريخيّة بمثابة قلبٍ تجاري لعاصمة سوريا الاقتصادية. الحركة التجارية اليومية تُقدّر بمئات ملايين الدولارات، عمر الأسواق التاريخية يتجاوز حاجز الـ2300 عام، لكنّك لن ترى هنا اليوم سوى الركام. قبل فترة وجيزة كان الجيش السوري قد أحرز تقدّماً على جبهات المدينة القديمة، وضمّ حي الفرافرة إلى سيطرته. فيما تستمرّ سيطرة المسلّحين على أجزاء واسعة من الممدية القديمة، وسط خطوط تماسٍ شديدة التداخل، وفي كثير من الأحيان لا يفصلُ بين السّيطرتين سوى جدار. لم يتوقّف المسلّحون عن حفر الأنفاق وتفجير عشرات المباني التاريخيّة «أملاً» في الوصول إلى القلعة. ثمّة مبانٍ (من بينها خانات، ومساجد) نجَت إلى حد ما من الدمار الكلي، مع ضرر طاول أجزاءً منها.
مظاهر لافتة
كثيرةٌ المظاهر التي تبدو مفاجئة في مدينة جرّبت الحرب كلّ فنونها فيها. ما زالت لشرطي السير «هيبة» واضحة، إلى درجة تجعل سائقي سيارات الأجرة حريصين على تأجيل استخدام هواتفهم إلى ما بعد تجاوزه. وخلافاً للمتوقّع تجدُ السائقين بعيدين عن الجشع. أسعار التوصيلات تراوح بين 250 و400 ليرة سوريّة (سعر صرف الدولار حوالى 530 ليرة) لا حاجةَ للاتفاق عليها مسبقاً. معظم السائقين يتعاملون مع الأمر بضمير حاضر، ويعيدون إليك حقّك على «آخر خمسين». مظاهر التسوّل شبه معدومة في معظم الأحياء. الحواجز داخل المدينة تختفي نهاراً، وهذا أحد «إنجازات المحافظ الجديد»، الذي يحظى حتى الآن بسمعة طيبة في الشارع الحلبي. «شغّيل وقبضاي»، يقولون عنه. أما المقاهي، فمكتظّة بطريقة شبه دائمة، وسيكون عليك أن تحجز مسبقاً في بعض «المناسبات»، مثل متابعة المباراة الأخيرة بين منتخبي سوريا وقطر. اكتظّت المقاهي، وانخرط الحاضرون في تشجيع حماسي، قبل أن تأتي النتيجة مخالفة لتطلّعاتهم.
مطبخ وتسميات
للطعام والمطاعم ثِقلٌ خاصّ في حلب. عراقة المطبخ الحلبي تفرضُ حضورَها أينما تناولت طعامَك. في كل حي هناك عشراتُ الخيارات التي تتيحُ لك أن تتلذّذ بوجبة استثنائيّة. ثمّة وجباتٌ ارتبطت بالمطبخ الحلبي دونَ سواه، مثل «اللحمة بكرز»، و«الكباب ببانجان (باذنجان)» و«الكبّة بسماقية». أحياء ومناطق بأكملها سُمّيت على اسم مطاعم شهيرة لطالما استقطبت الرّواد، حتى غدت مقصدهم الأبرز في المنطقة، واستولت على اسمها. حي «الموكامبو» الشهير واحدٌ من أبرز تلك الأحياء. وتعود هذه التسمية الشعبية إلى «نادي الموكامبو العائلي» الذي أنشئ في خمسينيات القرن الماضي. الأمر ذاته ينطبق على طريق الكاستيلّو الشهير الذي ذاع صيته في الحرب، أمّا اسمه فمستمدّ من اسم مطعم «الكاستيلّو». تماثله في ذلك منطقة «السيفان» (المتاخمة لدوّار الجندول) التي استعادها الجيش أخيراً، وتعودُ تسميتُها إلى اسم مطعم «سيفان» أحد المطاعم الصيفية الشهيرة أيام السلم.
(الاخبار)