خلفيات التنصل والتهديد
غالب قنديل
تواصل روسيا حشد قواتها البحرية والجوية في سورية وتعلن عن تسليم المنظومات الدفاعية الصاروخية العملاقة للجيش العربي السوري الذي يستعد لحسم المعركة في حلب ووجهت قيادته نداءا اخيرا للمسلحين في الأحياء الشرقية يعطيهم فرصة إلقاء السلاح والإفادة من العفو الرئاسي او الانتقال مع عائلاتهم خارج المدينة كما جرى في داريا وغيرها من العقد التي فككتها القيادة السورية ومنحت فيها فرص التراجع والانسحاب لمواطنيها الذي تورطوا في حمل السلاح وسط انباء عن مبادرة الأهالي في تلك الأحياء لرفع العلم السوري استعدادا لاستقبال جنود جيشهم الوطني الذين يتابعون زحفهم بثبات.
التهويل الأميركي يتواصل بالمقابل سياسيا وإعلاميا مع تسريب معلومات وخطط حربية عن حملة جوية أطلسية وشيكة لضرب مواقع الجيش العربي السوري بينما يبدو الانقسام داخل الإدارة الأميركية واضحا في الصورة وهو يعبر عن ارتباك شديد امام التحولات التي فرضها التلاحم القوي بين سورية وحليفها الروسي المصمم على فرض تحول حاسم في سباق مع الزمن الانتخابي الأميركي بحيث تكون أي إدارة اميركية جديدة محكومة بالرضوخ لقواعد الصراع الجديدة ومضطرة لطي رهانات المزيد من الاستنزاف العسكري والسياسي والاقتصادي للدولة السورية عبر حرب بواسطة عصابات الإرهاب.
إنه المزيد من الشيء نفسه في الحرب على سورية فضربة أوباما التي هدد بها في خريف 2013 كانت أوضح وأشد وشهدت حشدا للأساطيل الأميركية وحبس العالم أنفاسه على شفا حرب كونية كبرى وكانت نتيجة الحسابات التي أجراها البنتاغون هي التراجع الذي فسره أوباما بفكرة حرمان الرئيس بشار الأسد من لحظة إعلان النصر لأنه وفق البنتاغون كان من المستحيل القضاء على الجيش السوري الذي بات اليوم أكثر تماسكا وقوة من حيث الخبرة القتالية والقدرات البشرية والتقنية ويحظى بمساعدة مباشرة من روسيا والصين وإيران وإلى جانبه حزب الله بترسانته الصاروخية وبقوته المتمرسة في القتال .
الحماقة واردة كاحتمال لكن العواقب باتت أشد وضوحا مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات عندما تحولت المؤسسة الحاكمة إلى الاتفاق الكيماوي مع الدولة السورية والشراكة مع روسيا في قيادة التفاوض حول سورية.
جرى الانقلاب الأميركي على اتفاق كيري لافروف مؤخرا لتنطلق أجواء الحرب والتهديد علما ان جميع التغييرات التي حصلت هي لصالح ردع الجموح الأميركي نحو ارتكاب الحماقات في سورية لاسيما مع الحزم الروسي المسند بتواجد عسكري قوي جوا وبحرا وكذلك على الأرض فما هي الدوافع الواقعية الأكثر ترجيحا لما حصل ويحصل ؟
اولا تراجعت الولايات المتحدة عن مبدا الالتزام بالشراكة في تصفية جبهة النصرة الذي هو جوهر ما وقعت عليه في جنيف لأنها تريد الاحتفاظ بالجماعات الإرهابية لخدمة هدفين رئيسيين : مواصلة استنزاف الدولة السورية وحلفائها والأهم هو أن المؤسسة الحاكمة الأميركية تضع في استراتيجيتها مبدأ إعادة التوجيه لاستخدام الإرهاب في مناطق اخرى تشمل روسيا والصين وإيران وجميع الضربات الأميركية للإرهابيين تستهدف من خرجوا عن السيطرة وهي ما تزال تعتبر الإرهاب التكفيري اداة فعالة لشن حروب بالواسطة ضد الخصوم والمنافسين.
ثانيا من الترجيحات ان الرئيس باراك اوباما مصمم على نقل الملفات والأزمات إلى الإدارة المقبلة فلن يشن حربا كبرى يورثها للرئيس القادم ولن يبرم تسوية يلزمه بها ولذلك فهو يتبنى نظرية الجروح المفتوحة ليترك الخيارات على الطاولة لمن سيخلفه في البيت الأبيض حتى يتخذ القرار مع طاقمه القيادي ويتحمل المسؤولية فلا يخرج من يقول إن اوباما الزمنا بتنازلات فرط فيها بمكانة اميركا العالمية او ورطنا في حرب كنا في غنى عنها.
ثالثا رغبت الإدارة الأميركية في ترك المجال لاختبار قوة يدفع الأمور إلى أقصى مداها بصورة لا يبقى فيها مجال للوم واشنطن من قبل الصقور في الإدارة او من قبل العملاء والشركاء المتورطين في العدوان على سورية للبرهنة على ان التفاهم مع موسكو هو اضطرار استراتيجي لا بديل عنه وإلا تدحرج التصعيد نحو حرب كونية لا يرغب بها احد.
رابعا في الحصيلة روسيا وسورية وحلفاؤهما يطبقون اتفاق جنيف من طرف واحد ولن تجد الولايات المتحدة امامها سوى الرضوخ للنتائج ولملمة ما يتبقى من إرهابييها وعملائها لمواصلة الاستنزاف المحدود في سورية والاستعداد للانتقال إلى جبهات جديدة.