تركيا شأن داخلي أوروبي محمد نورالدين
أطلقت حملة اعتقال الصحفيين التابعين لجماعة فتح الله غولن، الداعية الإسلامي المعارض لسلطة “حزب العدالة والتنمية”، ومن ثم إصدار مذكرة توقيف دولية بحق غولن نفسه، شرارة سجالات جديدة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي .
بعد مرور سنة على انفجار هذه القضية أصدر القضاء التركي قراراً يختم فيه القضية نهائياً بعدم ملاحقة المتهمين وبالتالي براءتهم الضمنية وكأن شيئاً لم يكن .
لكن اتهام الحكومة التركية للمعارضة وخصوصاً جماعة غولن بأنها أداة بيد الخارج وتحميل الصحافة مسؤولية في ذلك وبالتالي اعتقال الصحفيين هنا وهناك، ووجهت بردة فعل أوروبية وغربية حادة، كما خلال حركات الاحتجاج في حديقة غيزي وساحة تقسيم في إسطنبول في حزيران/ يونيو ،2013 كذلك اليوم مع اعتقال صحفيي “زمان” و”صمانيولو” .
أعربت المفوضية الأوروبية عن قلقها الشديد من انتهاك القوانين وحرية التعبير التي هي من أبرز المعايير لدخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي .
ردة الفعل التركية لم تتأخر . الرئيس التركي أردوغان كان، كالعادة، في الواجهة وتصدى بنفسه للانتقادات الأوروبية . أهم ما قاله أردوغان إن هذه الانتقادات مغرضة ولا أساس لها من الصحة، والدولة بهذه الاعتقالات إنما تحافظ على أمنها . وقال إن الأوروبيين يتدخلون في الشأن الداخلي التركي وعليهم أن يهتموا بشؤونهم . ومن ثم قال إن على الأوروبيين أن يعرفوا أنه ليس لدى تركيا أي همّ للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي . ومن بعدها قال إن تركيا ليست عبداً على باب الاتحاد الأوروبي .
ليست المرة الأولى التي ينتقد فيها أردوغان الاتحاد الأوروبي ولا الأولى التي ينتقد فيها الأخير سياسات الحكومة التركية تجاه قضايا الحريات والديمقراطية . غير أن حجم المشكلات الناشئ بين الطرفين بات يتراكم إلى درجة يجعل من الصعوبة أن يجد نهاية له في المدى القريب . من جهة فإن أردوغان مقتنع بأن تصفية خصومه ضرورة لحماية سلطة حزب العدالة والتنمية، ومن يريد أن يتصدى لحزب العدالة والتنمية فعليه بصندوقة الاقتراع التي هي الفيصل في ذلك . ومن جهة ثانية لا يبدو أن أردوغان تحديداً راغب في أن تتطور العلاقة مع الاتحاد الأوروبي إلى درجة أن تكون تركيا عضواً كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي .
فالنهج الإيديولوجي الذي يتبعه أردوغان في السنوات القليلة الماضية يعكس المضي في تشكيل مشروعه الخاص بتركيا والذي يعيد الحيثية لتركيا مستقلة عن مشاريع القوى الأخرى وفي مقدمها الاتحاد الأوروبي وهو ما تصفه الدوائر المختلفة بالمشروع العثماني الجديد الذي يثير القلق والهواجس في الاتحاد الأوروبي حيث كانت الدولة العثمانية وأوروبا في صراع دائم استمر ستة قرون ولم تنته حتى الآن آثاره النفسية في الجانبين .
أردوغان مقتنع أن أوروبا لن تأخذ تركيا إلى نادي الاتحاد الأوروبي لأنها دولة مسلمة وهذا اعتقاد خطير لأنه يعزز التصور المسبق والموروث الذي يستدعي سلوكيات سلبية من الجانبين.
وفي الوقت نفسه فإن تخلي تركيا عن السعي الجدي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ليس مجرد قرار سياسي بل هو خيار حضاري . وإذا كان أردوغان يريد العودة إلى الهوية العثمانية فهو يدرك تماماً أن الاتحاد الأوروبي بمنظومة المعايير التي يعتنقها ويعتمدها الاتحاد هي الباب الوحيد أمام إحراز تقدم على مختلف الصعد ينقل تركيا من بلد تتدنى فيه المعايير الحاضرة الناظمة للتقدم إلى بلد يمكن أن يلحق بركب المعاصرة الحقيقية من دون التخلي عن الهوية الحضارية والثقافية للمجتمع . ونظرة خاطفة على حال العالم العربي والإسلامي تحسم الخيار الذي يفترض بتركيا أن تلجه . بل إنه إذا كان من بعض التقدم في تركيا الآن فهو من ثمار العلاقة ولو المتذبذبة بين تركيا والاتحاد الأوروبي منذ توقيع بروتوكول أنقرة بينهما في العام 1963 والذي يلحظ انضمام تركيا إلى المجموعة الأوروبية، حتى لا نعود أبعد إلى الماضي ونقول إنه أيضاً من ثمار حركات الإصلاح الأتاتوركية لإخراج تركيا من التخلف وولوج باب المعاصرة .
إن مجرد بدء مفاوضات العضوية المباشرة بين الطرفين في خريف العام 2005 يجعل الشأن التركي الداخلي شأناً أوروبياً وليس تدخلاً . فالجانبان يتباحثان ويناقشان أدق التفاصيل المتعلقة بالمعايير الناظمة للحياة العامة للفرد والمجتمع . وإذا كان لتركيا أن تواصل تقدمها وتتجاوز تعثراتها فالطريق الوحيد أمامها هو الالتزام بالمعايير المعتمدة في الاتحاد الأوروبي حتى لو لم تنته المفاوضات إلى انضمام تركيا إلى الاتحاد . أما استبدال تركيا معايير كوبنهاغن بما أسماه مرة “معايير أنقرة” فليس أمامه سوى أن يعود بتركيا القهقرى إلى عصور التخلف العثمانية .
(الخليج)