مقالات مختارة

حروب أردوغان من «لوزان» إلى «إيجه» مروراً بـ«جرابلس» محمد نور الدين

 

يُواصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حملته على النظام السوري، ويُواصل أركان نظامه في وصف السياسة التركية السابقة في سوريا بالخاطئة والتي جرّت على تركيا ويلات وتفجيرات.

لكن ما كان يُحكى، بعد الانقلاب العسكري، على لسان المسؤولين الأتراك من أن كل مصائب تركيا من سياستها السورية، لم يكن يعني تغيير هذه السياسة وسحب اليد من الأزمة السورية. بل كان يعني أنه كان على تركيا أن تتدخّل مُباشرة منذ البداية في الأزمة وأن تكون لاعباً مباشراً بتشابك الأيدي مع المعارضة السورية بكل فصائلها لا سيما «الجيش السوري الحرّ».

نائب رئيس الحكومة نعمان قورتولموش قال العبارة الأبرز في السابق: «كل ما ابتلينا به كان بسبب سياستنا في سوريا». أمس الأول الخميس كان يقول: «لو لم تكن لنا تلك السياسة الخاطئة لما حصلت كل تلك التفجيرات في تركيا».

التغيير في السياسة التركية قائم بالفعل، لكن ليس في اتجاه التخلّي عن دعم المعارضة والعمل على إسقاط النظام، بل في اتجاه العودة إلى المربّع الأول، أي التدخّل العسكري المُباشر وهو ما قامت به فعلياً بدعم أميركي، وفي «غفلة» عن « أصدقائها الجدد» في 24 أب الماضي باحتلال جرابلس و… ما بعد جرابلس.

كل اللوم يضعه المسؤولون السياسيون، اليوم، على القادة العسكريين الذين كانوا يتولّون جبهة الحدود السورية، والذين اتُهموا بعد الانقلاب، بأنهم كانوا من جماعة غولن، وكانوا يُعرقلون التدخّل العسكري في سوريا لإبقاء تركيا مغلولة الأيدي تجاه سوريا.

هذا التفسير لقادة أنقرة ليس صحيحاً بأي حال. فعدم دخول سوريا مُباشرة وإقامة منطقة آمنة ومنطقة حظر جوي، كانت دونه عقبات أميركية ومن محور الممانعة والمقاومة. وخلا ذلك، فإن تركيا لا يُمكنها تبرئة نفسها من أكبر دعم قدّمته، على مدى الأزمة، لكل فصائل المعارضة بالسلاح والمُقاتلين والعلاج وتنظيم المؤتمرات.

في العودة إلى مواقف المسؤولين الأتراك، فإن كلام اردوغان، أمام اجتماع المخاتير أمس الأول الخميس، حمل كالعادة عناوين تؤكد السياسات التركية المعادية للنظام في سوريا. قال أردوغان إن التحالف المعادي لتركيا بين النظام السوري وقوات الحماية الكردية مستمر. واعتبر التدخل العسكري التركي بأنه فتح صفحة جديدة من المسألة السورية سيكون الشعب السوري فيها هو المحدد لمستقبله. وقال: «إننا خلف المعارضة ونحن نعمل على منطقة آمنة من خمسة آلاف كيلومتر مربع بدءاً من جرابلس وصولاً إلى الراعي وهي مرحلة أولى». وأضاف أن من لا يريد هذه المنطقة هو النظام السوري وقوات الحماية الكردية و»داعش». ووصف أردوغان عملية جرابلس بأنها «أكبر وأوسع عملية خارج الحدود في تاريخ تركيا وهي مستمرة بنجاح».

بطبيعة الحال، يحتاج أردوغان كما حزب «العدالة والتنمية» لجرعة من الثقة بالنفس وبعض المكاسب للتعويض عن هزّة الانقلاب العسكري في 15 تموز الماضي، والتي لم تنته تداعــياتها. ما اعتــبره أردوغــان عملية ناجحة ليس سوى مسرحية مكــشوفة. فكيف يُمكن أن تكــون أكبر عملية عسكرية في تاريخ تركيا الحديثــة خــارج الحدود ولم تُرق فيها نقطة دم واحدة؟ وهــو ما ألمــح إليه بيان لوزارة الخــارجية الروسية هذا الأسبوع، عندما قال إن «داعــش» لم يبــد أي مقــاومة للقوات التركية.

ولا يخفى التضليل الذي يُريد أن يحوّل «نزهة عسكرية» إلى إنجاز بالقول إن الجيش التركي، قام بأوسع عملية في تاريخ تركيا الحديث. ففي هذا تجاوز للحقائق، إذ إن الجيش التركي قام بعمليات عسكرية أوسع بكثير من عملية جرابلس وكلها كانت دموية بامتياز ضد «العدو». مرة، عندما غزا الجيش التركي قبرص في العام 1974 واحتلّ نصفها الشمالي ولا يزال، ومرات كثيرة عندما كان آلاف الجنود الأتراك يتوغّلون داخل العراق عشرات الكيلومترات في عهد صدام حسين لمطاردة مقاتلي حزب «العمال الكردستاني». لذا، فإن أدق وصف، ربما، لعملية جرابلس هي أنها «عملية حبّية» بين طرفين يجمعهما هدف مركزي وهو العداء لسوريا وخياراتها الاستراتيجية.

حاجة أردوغان لتظهير العملية الحبّية على أنها نصر عسكري، تعكسها التوترات الداخلية المستمرة. فقانون حال الطوارئ الذي أُقرّ في 20 تموز الماضي لثلاثة أشهر، سوف يتمّ تمديده طبعاً بتصويت في البرلمان قبل انتهاء المهلة. وعلى ما يبدو، فإن المعارضة بدأت تدرك ولو متأخرة أن اردوغان قد تلاعب بها ومرّر، تحت عنوان حال الطوارئ، كل ما يُمكن أن يحلم به نظام في تصفية خصومه والتشفّي من كل أعدائه وخصومه من غولن إلى كل العلمانيين. لذا، فإن رئيس حزب «الشعب الجمهوري» رفع قانون الطوارئ إلى المحكمة الدستورية طالباً إلغاءه لأنه تخطّى الصلاحيات المنصوص عليها في القانون.

وقد قال كيليتشيدار أوغلو إن عدد المغدورين نتيجة المُلاحقات من اعتقالات وطرد من الوظائف وقيد التحقيق يُقارب المليون شخص. وقال ماذا سيفعل هؤلاء هل سيهربون إلى الجبال ويحملون السلاح أم سيبقون عبيداً لمن يُلاحقهم؟ العدد الذي أورده كيليتشدار أوغلو، يكشف الرقم المتواضع لعدد المعتقلين، الذي أوردته وزارة الداخلية (32 ألف معتقل)، في إخفاء لحقيقة الأمر التي تنعكس شائعات ووشايات و «خبريات» يومية. فيما إغلاق الصحف ووسائل الإعلام مستمرة وآخرها قبل يومين إغلاق 12 محطة تلفزيونية و11 محطة إذاعية. علماً أن بينها محطة «تلفزيون 10» التي تعود للعلويين، والذين احتجوا رافضين «إسكات الصوت العلوي»، ومحطة «زاروك» الكردية الخاصة بالرسوم المتحركة للأطفال! وتساءلت مديرة المحطة ديليك ديميرال: «كيف يُمكن أن نكون نبثّ دعاية انفصالية ونحن نبثّ أشرطة متحرّكة للأطفال؟ كل ذنبنا أننا نبثّ باللغة الكردية».

الكل يتحدّث عن التداعيات والآثار الاجتماعية والسياسية والنفسية لحملات تصفية المعارضين. الرئيس السابق لاستخبارات الجيش التركي اسماعيل حقي بكين تحدّث في ندوة، مُحذراً من أن احتمالات تكرار الانقلاب العسكري لا تزال قائمة. وقال إن تنظيم غولن خطير جداً ومُتغلغل في كل المجالات. وهذا الخطر لا يزال قائماً. وقال إن قدرة التنظيم على خلق الفوضى والقيام بأعمال ما، ومنها اغتيال رجب طيب أردوغان، كبيرة لذا فإن التخلّص من هذا الخطر يتطلّب استعادة غولن من الولايات المتحدة.

كان أردوغان قد وصف معركته ضد فتح الله غولن بعد انقلاب 15 تموز بأنها «حرب استقلال» جديدة ضدّ كل القوى التي تريد أن تركّع تركيا.

معركة أردوغان مع شريكه السابق الإسلامي غولن، لم تكن سوى مدخلاً لمعركته الأصلية ضد الجمهورية العلمانية ومؤسسيها مصطفى كمال اتاتورك وعصمت إينونو.

كان أردوغان قد اعتبر سابقاً أنه من الخطأ أن نبدأ تاريخ تركيا الحديث من إعلان الجمهورية في العام 1923. إذ إن تاريخ تركيا يمتدّ إلى الفترة العثمانية.

خطوات أردوغان لمحو صفحة الجمهورية والعلمانية من تاريخ تركيا الحديث استكمله رئيس البرلمان اسماعيل قهرمان، عندما دعا إلى حذف العلمنة من أي دستور جديد.

قبل يومين، كان أردوغان يستكمل أيضاً هذه الحملة. وكان المُستهدف هذه المرة معاهدة «لوزان» التي وقّعتها تركيا في 24 تموز في العام 1923، والتي اعتبرها مصطفى كمال وعصمت اينونو نصراً للحركة القومية التركية وولادة لتاريخ تركيا الجديدة.

في اجتماعه السابع والعشرين مع المخاتير، تطرّق أردوغان إلى «لوزان»، فقال إن «الأمة التركية أمة عظيمة. في العام 1920 رفعوا بوجهنا اتفاقية سيفر. وفي العام 1923 دفعونا لنرضى بلوزان. وخرج بعضهم (اتاتورك وإينونو) يريد أن يبلّعنا لوزان على أنها نصر». وقال إنه «إذا صرخ أحدكم، فإن صوته يصل إلى تلك الجزر(الـ 12) التي أعطيت لليونان. فهل هذا نصر؟ إنها لنا. لا تزال جوامعنا هناك. نحن لا نزال نعيش مصاعب تلك المفاوضات. وسببها من جلسوا إليها ولم يعطوا هذه الاتفاقية حقها. ولو نجح الانقلاب (في 15 تموز الماضي) لكانوا اظهروا لنا سيفر من جديد». وقال إن «انقلاب 15 تموز كان محاولة لاحتلال الجزء الأخير الذي تبقّى من أراضينا بعدما سقطت الأجزاء الباقية بين العامين 1912 و1923».

كلام أردوغان، خلق داخل تركيا نقاشاً وسجالاً في كل الاتجاهات. كاد حديثه نسخة طبق الأصل عن افتتاحيات رئيس تحرير «يني شفق» ابراهيم قره غول. أما يوسف قبلان، في الصحيفة نفسها، فلم يجد في «لوزان» سوى «فرمان موت» الأتراك. هناك محاولات محمومة منذ سنوات لمحو ذكر اتاتورك وكسر القدسية التي تحيط به تمهيداً لكسر نهائي للعلمانية والجمهورية بما تُمثّله من قيم معينة من أجل هدف نهائي وهو إحياء عثمانية جديدة ماتت.

اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي المنتقدة لأردوغان. من بعضها: «لو لم تُهرّب رفات سليمان شاه، لما كانت هناك مشكلة منبج، ولما ظهرت مشكلة غرب الفرات. إن من هرّبوا الرفات يناقشون اليوم لوزان. من الذي تخلّى فعلاً عن تلك الأرض؟». فيما دعاه آخرون لعدم الهروب من الحاضر بفتح دفاتر الماضي.

في الأبعاد الجدية، استنكر المؤرخ المعروف إيلبير اورطايلي خطاب أردوغان، وقال إن «لوزان كانت اتفاقاً ولم تكن هزيمة وليست خيانة. هذا كله لغو. هذا كلام من يجلسون يقهقهون في المقاهي ويسبّحون».

وكانت ردة فعل من حفيدة إينونو، النائبة الحالية عن حزب «الشعب الجمهوري» في اسطنبول غولسون بيلغيه خان التي قالت في تغريدة على موقع «تويتر» إن أردوغان عاد إلى عاداته القديمة وصب جامّ غضبه على «لوزان».

القيادي في حزب «الشعب الجمهوري» غورسيل تكين، قال إن أردوغان عنده حساسية مزمنة تجاه قيم الجمهورية. وقال إنه من الواضح أن أردوغان لا يتحلّى بهذه القيم ولا بروح الديموقراطية وحقوق الانسان. أما المتحدّثة باسم الحزب النائبة سيلين بوكه، فذكّرت أردوغان بما قاله في 23 آب الماضي من أن «لوزان نصر وهي من المحرمات داخل الدولة». لكن على ما يبدو، فإن أردوغان مصنع لتغيير المعايير.

أخيراً، يبدو أن الرئيس التركي لا يعرف جيداً تاريخ بلاده. إذ إن معاهدة «لوزان» في العام 1923، لم تُعط الجزر الـ 12 إلى اليونان، كما قال اردوغان، بل إلى إيطاليا التي كانت استولت عليها قبل ذلك في العام 1911، فيما اليونان استولت على عدد آخر من الجزر من جراء حرب البلقان التي انهزمت فيها السلطنة العثمانية. وقد أقرّت الدول الكبرى في 14 شباط 1914 إعطاء الجزر لليونان. لكن بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية واستيلاء القوى المتحالفة على الجزر الـ 12، قرّر «مؤتمر باريس» للدول المنتصرة في العام 1947، وضع هذه الجزر تحت السيادة اليونانية على أن تبقى منزوعة السلاح. وبالتالي، فإن من تخلّى عن الجزر ليس أتاتورك، بل العثمانيون أنفسهم وليس إلى اليونان بل إلى إيطاليا.

بهذا السجال الجديد، حول «لوزان» وتصويب العين على جزر اليونان والرغبة في المشاركة في معركة تحرير الموصل بعدما دخل الجيش التركي الى سوريا وعينه على الباب فالرقّة، إنما يؤشر إلى أن اردوغان لم يعتبر من هزيمة عثمانية احمد داود اوغلو في سوريا ومصر والمنطقة، ويستعدّ لطرق باب مغامرات جديدة في الهزيع الأخير من عمر سلطته المُحدقة بها شتى الاحتمالات.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى