حماه والأعاصير… من «الجسد الواحد» إلى «مروان حديد» عبد الله سليمان علي
لا تزال المعارك الدائرة في ريف حماه الشمالي، والتي تستكمل اليوم شهرها الأول، تسير ضمن سياق مُكرّر، يكاد يكون نسخةً طبق الأصل عن معركة «الجسد الواحد» التي شهدتها المنطقةُ ذاتُها في ربيع العام 2013، والتي انتهت آنذاك بفشل ذريع. غير أن بعض الاختلافات الجذرية التي تُميزّ «معركة مروان حديد» الحالية عن سابقتها، قد تجعل التطورات مفتوحةً على مروحةٍ واسعة من الاحتمالات، لا سيما في ظل ما نشهده من تدافعٍ واسع للفصائل المسلحة من أجل الالتحاق بالمعركة، والمشاركة في التأثير في مجرياتها، وذلك لأسبابٍ تختلف من فصيل لآخر.
وتتراوح أهداف المعركة بين هدفٍ مباشر يتمثل في محاولة التقدم على الأرض وفق خطة موضوعة بغية تطويق مدينة حماه، تمهيداً لطرق أبوابها لإسقاطها بالتهديد والحصار، أو المغامرة باقتحامها عسكرياً، مع ما يُصاحب ذلك من صعوبات ومحاذير كثيرة، وبين محاولة فرض مدينة حماه كمعادل استراتيجي لمدينة حلب يكون من شأنه الحفاظ على التوازنات المهددة بالرجحان لمصلحة الجيش السوري في حلب، إذ إن حماه هي البطين الثاني الذي يتألف منه قلب سوريا الجغرافي إلى جانب حمص، وهي عقدة أساسية تمر عبرها أهم خطوط إمداد الجيش السوري، ما يمنحها أهمية استراتيجية كبيرة جداً، ترشحها للعب دور المعادل أو البديل الاستراتيجي. أما الهدف الثالث، والبعيد نوعاً ما، فهو محاولة فك الحصار عن ريف حمص الشمالي.
وسوف يكون تنظيم «داعش» أكثر الأطراف استفادةً من استمرار هذه المعركة، وذلك لأسباب عدة أهمها، إن انشغال الجيش في مواجهة الفصائل في الريف الشمالي سوف يُخفف العبء عن معاقله في الريف الشرقي، وقد يجد ثغرة لاتخاذ خطوة عسكرية هنا أو هناك، وهو ما بدا فعلياً من خلال تحرّشه بمواقع الجيش على محور القليعة الذي لا يبعد عن خناصر سوى 15 كيلومتراً. والثاني أن «جند الأقصى» الذي يقوم بالدور الأبرز في المعركة، يُعدّ من الفصائل القليلة في سوريا التي لم تقاتل التنظيم، ونظراً لتوجهه المدعم بالوقائع نحو إقامة إمارة إسلامية في مناطق سيطرته في ريف حماه، فإن ذلك يُشكل مكسباً لتنظيم «داعش»، لا سيما إذا تمكن الطرفان من استعادة التنسيق العسكري بينهما بعد أن تقترب مناطقهما من بعضها بعضاً.
من هنا، يتبدى جزء من التعقيد الذي بدأ يحيط بمعركة حماه، إذ إن العديد من الفصائل التي سارعت إلى الانخراط في المعركة لم تفعل ذلك إلا مدفوعةً بمشاعر القلق والخوف من حدوث هذا التقارب بين الفصيلين، إضافة إلى عدم رغبتها في رؤية «جند الأقصى» وهو يؤسس إمارته الخاصة في منطقة تعتبرها بعض هذه الفصائل «مسقط رأسها» الذي لا يمكنها السماح باستباحته من قبل غيرها، فكيف من قبل فصيلٍ بات يُعدُّ معادياً لها، وهددت سابقاً بمحاربته بعد انتهائها من معركة حلب.
وما يؤكد ذلك أن الألوية العسكرية التابعة لـ «أحرار الشام» ذات المنشأ الحموي الصرف، مثل «جيش الايمان» و «لواء المهاجرين والأنصار»، تحاول وضع يدها على جبهة القتال الممتدة نحو الريف الشرقي، وهي سيطرت في هذا السياق، على الشعثة والطليسية، خلال اليومين الماضيين، بعدما ارسلت قوة لها بقيادة أبو الأدهم كرناز، وهو القائد العسكري المندوب عنها في قيادة «غرفة عمليات جيش الفتح»، ما يؤكد أهمية الأمر بالنسبة لها. ولا شك أن التوجه شرقاً جاء نتيجة هواجس «الحركة» من حدوث الالتقاء بين «جند الأقصى» و «داعش». ولا ينبغي نسيان أن أحد الأسباب التي دفعت «جند الأقصى» إلى الخروج من «جيش الفتح في إدلب» إبان الحديث عن إطلاق «غزوة حماه» قبل عام من الآن، هو ضغط «أحرار الشام» من أجل القتال ضد «داعش»، في توقع بديهي منها بأن غزو حماه سيؤدي حتماً للاصطدام بمناطق سيطرة التنظيم، وهو ما رفضه «جند الأقصى» وخرج على إثره من «جيش الفتح».
وأهم الفصائل التي أعلنت عن انخراطها المستجد في هذه المعركة هي: «جيش الفتح» الذي اعلن السعودي عبد الله المحيسني انخراطه في المعركة عبر بيان مصور نشر أمس على صفحته في «تويتر»، و «جيش إدلب الحر»، و «جماعة المرابطين» التي تأسست من اندماج ثلاثة فصائل هي «لواء العزم» و «سرايا الغرباء» و «لواء الصفوة»، كما أعلن عن انضمام «لواء أحرار داريا» إلى «جيش النصر» بهدف المشاركة في هذه المعركة. وكان مسلحو داريا قد خرجوا إلى إدلب بموجب اتفاق تسوية مع الجيش السوري مؤخراً.
وبالرغم من أن أوساط «جند الأقصى» لم ترحب، بسبب التباين في الغايات، بتدخل الفصائل الأخرى في هذه المعركة، إلا أنه من المستبعد أن تقوم بأي رد فعل عنيف على ذلك، خصوصاً أن التدخل جاء من «جيش الفتح» الذي يضم «جبهة النصرة» التي هي الأخرى مقربة منه، وما زالت تحافظ على علاقات واسعة معه. ويبدو أن التدخل باسم «جيش الفتح» وليس باسم «جيش حماه» الذي أعلن عنه قبل أسبوعين بهدف «إدارة مدينة حماه بعد تحريرها»، جاء نتيجة وساطة قامت بها «جبهة النصرة» للتخفيف من حدة الخلافات التي لم يستطع المحيسني إخفاءها عندما تجاهل ذكر اسم «جند الأقصى» في البيان الصوتي الذي أعلن من خلاله توجه «جحافل جيش الفتح» إلى ريف حماه.
ولعلّ «جند الأقصى» رأى أن أفضل طريقة للرد على تحركات الفصائل هي المسارعة في الكشف عن الهدف الحقيقي من وراء إطلاقه معركة «مروان حديد»، وهو الهدف الذي اشارت إليه «السفير» بعد أربعة أيام من بدء المعركة، والمتمثل في إقامة إمارة إسلامية؛ إذ بعد قراره بمنع المتاجرة بمادة الدخان، وتلميحه إلى قدرته على التحكم بالحواجز التابعة للفصائل الأخرى عندما أمهلها مدة 48 ساعة لإزالتها «من طريق المسلمين»، أصدر «جند الأقصى»، أمس، قراراً ببدء تطبيق الشريعة في مناطق سيطرته في ريف حماه الشمالي. كما قام بإنشاء محكمة خاصة به و«هيئة حسبة» تتولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك في خطوات تؤكد سعيه إلى تكريس إمارته الخاصة به في مناطق سيطرته. وجاء في القرار الذي أصدره «جند الأقصى» أنه «حرصاً منا على أوامر الله تبارك وتعالى واجتناب نواهيه، قام إخوانكم في هيئة الحسبة بإعداد هذا المنشور» الذي نصّ على منع «انتشار مظاهر المنكرات» والتي أجملها بعدة مظاهر، وهي «سبّ الله (الكفر)، والتبرّج والسفور، وترك صلاة الجماعة، والدخان والأراكيل، والكلام البذيء، واختلاط الرجال والنساء، وسماع الأغاني».
أما ميدانياً، فقد شهد صباح أمس حالة من الهدوء النسبي على جبهات القتال في ريف حماه، قد يكون مردّه إلى انشغال الفصائل المسلحة في التثبيت في النقاط التي سيطرت عليها مؤخراً، وانشغال الجيش السوري في إقامة جدار صد في القرى المجاورة للحيلولة دون خسارة مزيد من المناطق. ومساء، تجددت الاشتباكات اثر هجوم قامت به الفصائل المسلحة على بعض القرى في المنطقة، استطاعت من خلاله السيطرة على حواجز تل ابيض والمدجنة وقرية الجنينة جنوب قرية الشعثة، وسط توقعات ان يكون الهدف المقبل قرى الفانات وكراح بهدف الوصول الى طريق ابو دالية.
يشار إلى أن القرى التي سيطرت عليها الفصائل حتى صباح أمس، كان سبق لها السيطرة عليها ضمن «معركة الجسد الواحد» في العام 2013، وتمكن الجيش السوري من استعادتها بزمن قياسي. وتكمن معضلة الفصائل في أن التقدم في تلك المنطقة ذات الطبيعة والتضاريس الصحراوية يتطلب استخدام مخزونها من العتاد الثقيل، كالدبابات والعربات المدرعة، وهو ما يسهل استهدافه من قبل سلاح الجو في منطقة مكشوفة. وكان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى فشل «الجسد الواحد»، بالإضافة إلى الخلافات التي دبّت بين الفصائل في ذلك الوقت. وقد دفع هذا الفشل الفصائل إلى إطلاق معركة «قادمون» في تشرين الأول من العام ذاته، منطلقين هذه المرة من الريف الشرقي باتجاه الريف الشمالي لحماه، وهي أيضاً انتهت إلى فشل مماثل.
إلا أن بعض الاختلافات قد تجعل المعركة الحالية اشد صعوبة ومفتوحة على احتمالات عديدة. وأهم هذه الاختلافات هو سيطرة «جيش الفتح» على محافظة إدلب، ما يعطيه عمقاً استراتيجياً مهما. وكذلك غلبة الطابع الاسلامي المتشدد على الفصائل التي تقوم بالمعركة الحالية، بينما كانت المعارك السابقة تقوم تحت إشراف المجالس العسكرية التابعة لـ«الجيش الحر». كما أن اشتداد الضغط على الفصائل في حلب، وما يشكله ذلك من تهديد استراتيجي لها، قد يدفعها مع بعض الدول الداعمة لها إلى القتال بشراسة كبيرة في ريف حماه، أملاً بالتخفيف عن حلب. وقد يكون وصول بعض الأسلحة الحديثة إلى مستودعات الفصائل خلال الأيام الماضية مجرد مؤشر على ما يمكن أن ينتظر جبهات القتال، ومنها حماه، من تصعيد عسكري كبير.
(السفير)