بقلم ناصر قنديل

ماذا يعني التفاوض على صفيح ساخن؟: ناصر قنديل

– تتواصل الإشارات المتناقضة على اتجاه الموقف الأميركي في التعامل مع التفاهم الذي استغرق التوصل إليه ستة أشهر من التفاوض تخللتها ألف وسبعمئة ساعة عمل لفرق الخبراء. واستهلك آخر اجتماع وزاري لحسم أمر التفاهم أربع عشرة ساعة لاجتماع شبه متواصل لوزيري الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف. فمن جهة تتحدث واشنطن بلغة عالية النبرة مع روسيا، وباتهامات لاذعة لها ولحليفتها سورية وتحمّلهما مسؤولية تعقيد مهمة تطبيق التفاهم، وفشل الهدنة، ومن جهة مقابلة تتمسك واشنطن بلسان الوزير كيري بالتفاهم وتقدّمه من منبر مجلس الأمن كمنفذ وحيد للخروج من المستنقع الصعب الذي باتت تمثله سورية. بالمقابل لا تبدو موسكو مهتمة بالنبرة الأميركية إلا بمقدار ردّ الصاع صاعين، واعتماد لهجة أبسط مفرداتها اتهام واشنطن بالعمل تحت الطاولة مع التنظيمات الإرهابية، ولكن موسكو في المقابل تبدو مثل واشنطن أشدّ تمسكاً بالتفاهم من أيّ وقت مضى، وتعتبره الطريق الأوحد لمواجهة الإرهاب ووقف الحرب في سورية، ما يعني أنّ التفاهم كما قال كيري، لم يمت لكنه يعاني صعوبات كبيرة. وهذا ما يقصد في علم السياسة بالتفاوض على صفيح ساخن، أيّ اليقين بأنّ زمن الربح الكامل والمواجهة المفتوحة قد مضى، وأنّ التفاوض هو الطريق، وأنّ عناوين التفاهمات التي صاغها التفاوض، تحتاج لدخول حيّز التنفيذ إلى المزيد من التفاوض، لكنه تفاوض سيجري خارج الطاولات والغرف، تفاوض يجري في الميدان، وأسواق الاستثمار، وممرات تحليق الطائرات، وفوق خرائط سكك الحديد، وأنابيب النفط والغاز، وعبر المبعوثين السريين الذي يحملون الرسائل ويتطوّعون لحلحلة العقد، كرجال الأعمال وأصحاب الشركات والمرشحين لرئاسة الجمهورية والحكومة في لبنان، ومرشحي رئاسة الحكومة والمناصب الوزارية في أي حكومة سورية موحّدة.

– ثلاثة أحداث تزامنت خلال أسبوع الهدنة وشكلت خاتمتها، من الطرف الأميركي، ومقابلها بضعة مواقف روسية وسورية وعراقية تسمح بأخذ فكرة عن التفاوض على صفيح ساخن، الذي تطاح فيه رؤوس وتسقط مواقع وتحترق قوافل وتطلق صواريخ. قام الأميركيون بغارتهم على دير الزور وقالوا إنها بالخطأ، واحترقت قافلة تنقل معونات غذائية وطبية حصلت على تصاريح من الحكومة السورية، ووقع الحريق الناتج على أغلب تقدير عن قصفها بعد دخولها مناطق سيطرة الجماعات المسلحة، وأعلن الأميركيون من جهة ثالثة انتهاء استعداداتهم لخوض معركة تحرير الموصل، لكن مع دور حاسم للبشمركة الكردية. البدء بإحراق قافلة المعونات يوصلنا بسهولة إلى التساؤل عن مصلحة سورية وروسيا بقصفها، وقد منحوها الموافقة على العبور، ولا إحراج في رفض الترخيص بعبورها وقد منعوا القوافل التي يحرجهم رفضها والتي تستعدّ منذ أيام لدخول شرق حلب. والقول بشكوك حول محتواها مردود عليه، بأنه جرى تفتيشها، ولماذا يمنح الروس والسوريون أعداءهم وخصوصاً للأميركيين فرصة تناولهم بحملة إعلامية تغطي على غارة دير الزور، وتقول كلنا متساوون بالخطأ أو بالاستهداف العمد، وهذا ما بدا أنّ الأميركيين كانوا مستعدّين لفعله فوراً، كما بادروا لسحب تعاون الأمم المتحدة والجماعات التابعة لهم من منظمات دولية ومحلية تعمل في الشأن الإنساني، لتنفضح أنها خطة، تكفي لبدء تطبيقها طائرة بدون طيار، تقذف صاروخاً على طريقة ما تفعله شقيقاتها في وزيرستان أفغانستان وتستهدف قوافل تقول إنها تتبع لتنظيم القاعدة.

– بالنظر للغارة على دير الزور يكفي التوقف ملياً أمام معادلتين تجمعهما دير الزور. الأولى أنها الرمز التقليدي للمناطق النفطية السورية وامتيازاتها وتطلع الشركات الأميركية نحوها، والبحث بكيفية تقاسم السوق النفطية السورية بعد الحرب هم حقيقي لدى الأميركيين، فكيف وهي الممر المتوقع لخط الأنابيب النفطي العراقي الإيراني إلى المتوسط. وهنا الميزة الثانية لدير الزور فهي المعبر الجغرافي الوحيد بين العراق وسورية الذي يمكن أن يربط الجغرافيا الإيرانية وعبرها ما وراءها عبر أفغانستان وصولاً للصين وروسيا، بالبحر المتوسط، ما يضع الغارة كرسالة مغمسة بالدم في قلب المفاوضات على مستقبل ما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وفرص التواصل الجغرافي التي يفتحها للثلاثي الروسي الصيني الإيراني، على المتوسط، والرسالة تقول إن واشنطن تملك القدرة على تعطيل سيطرة الجيش السوري على هذه المنطقة من دون موافقتها المشروطة بتفاهمات. والتفاهمات هنا عروض سيحملها أو سبق أن حملها أصحاب أو وسطاء لشركات نفطية أميركية تطلب تعاقداً يمنحها امتيازات أمنية واقتصادية وجغرافية تجعلها شريكاً في كل توظيف مستقبلي للمنطقة. والوسطاء ربما يتطلعون لحجز مناصب سياسية في لبنان أو سورية مستقبلاً، باعتبارهم جسور تواصل سورية روسية أميركية، ولا يمكن فصل ما جرى في دير الزور عما يجري من تحضير وإيحاء أميركي بجهوزية لحرب الموصل وبدور كردي فاعل فيها، وما سيترتب عليها من إمساك أميركي بالموصل بحضور مباشر وغير مباشر، كمنصة حاضرة للضغط لاحقاً على الجغرافيا السورية، المتصلة بالموصل عبر الحسكة، حيث دعمت واشنطن سيطرة ميليشات كردية على المواقع العائدة للجيش السوري، لكن حرب الموصل فوق ذلك ستدفع بالآلاف من عناصر داعش نحو دير الزور، وهذه رسائل بين السطور يحملها هذا التفاوض على صفيح ساخن.

– في المقابل شهدنا جملة تطورات كانت لافتة، لجهة صعوبة توقعها وفقاً للسيرة السابقة لتعامل أصحابها مع أحداث مماثلة. فالدولة السورية تعلن للمرة الأولى في شأن بحجم هدنة أعلنتها موسكو وواشنطن، دون ربط موقفها بتشاور معلن مع موسكو، ومثله بين موسكو وواشنطن أن العمل بأحكام الهدنة قد انتهى. ومثلها للمرة الأولى يتولى البرلمان العراقي سحب الثقة من وزير المالية هوشيار زيباري الذي يجمع صفتين، الأولى تمثيله للبشمركة في أهمّ وزارة تحتاجها الحرب وهي وزارة المالية، والثانية مكانته المميزة عند الأميركيين. ومع هذين الحدثين تنقل الأخبار من حلب تصاعداً عسكرياً يوحي بتعرّض الأحياء الشرقية التي يهمّ مستقبلها الأميركيين، لخطر السقوط العسكري، الجزئي أو الكلي، أو على الأقلّ التعرّض للضغوط التي توحي بذلك، بينما تستقدم موسكو إحدى أهمّ مدمّراتها إلى البحر المتوسط وتعلن أن هذا لتدعيم قواتها العسكرية والمهام التي تقوم بها في سورية.

– تفاوض على صفيح ساخن، سنشهد فصوله الأشدّ حماوة حتى نهاية الشهر موعد تبلور معادلة تطبيق التفاهم الروسي الأميركي، الذي بدا من مداولات مجلس الأمن الدولي أنه موضع إجماع الفرقاء وتمسك متبادل بإبقائه على قيد الحياة من طرفيه الروسي والأميركي.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى