ليس من قبيل الخطأ!!!
بنت الأرض
بين الفينة والفينة، تطالعنا دولة غربيّة ذات ماضٍ استعماري معروف بتقارير من جهات مختلفة، بأنها قد أخطأت في قرار تسبب بقتل الآلاف ، أو انهيار دول، أو تدمير حضارة. فبعد الحرب الأميركية وهزيمة أمريكا في فيتنام تناولت أقلام شتى في الغرب هذه الحرب، وتحدثت عن أخطاء ارتكبها الجيش الأميركي والإدارة الأميركية في حينه، وكذلك حدث بعد غزو الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق، وتدمير البنية التحتية في البلدين، وإعادة البلدين أكثر من مئة عام في غياهب التاريخ. ولم نتمكن من الإطلاع حتى على نتائح التحقيق في الذريعة الأساسية التي دفعت بجيش الولايات المتحدة لاحتلال العراق، ألا وهي امتلاكه لأسلحة دمار شامل، بل أغلق الملف وأقفل عليه في خزائن الأمم المتحدة لستين عاماً قادمة. وكذلك نقرأ منذ بضعة أيام تقريراً بريطانياً يوضّح أن المملكة المتحدة البريطانية قد ارتكبت خطأ بالموافقة على قصف ليبيا وأن هذا القصف قد تسبب بمشاكل كثيرة لذاك البلد.
بعد كلّ الذي مارسته الدول الغربية الإستعمارية من ظلم مهين لمعظم شعوب الأرض كي تجني فوائده الاقتصادية لبلدانها، أصبحت أرى في مثل هذه التقارير “التي تعترف بالخطأ”، أصبحت أرى بها استهانة بعقول البشر ومحاولة لتسجيل موقف يكتب في صفحات التاريخ كي يبّرأ الدولة المعنية من أشنع الممارسات ضد حقوق بشر ودول، ممارسات تهدف عن قصد وسابق إصرار لنهب تلك البلدان، واستباحة خيراتها، وتجيير كل ما تملكه لصالح الدولة الإستعمارية وسلب شعب البلد المعنيّ حقه مما رزقه الله من معادن أو خيرات أو نفط أو حضارة. والتاريخ مفعم بمئات الشواهد في إفريقيا وآسيا والسرقة الممنهجة والمستمرة لخيرات هذه البلدان كي تبنى بها قصور الإمبراطوريات، وتتقدم بها صناعاتهم العسكرية، لتعود وبالاً مرّة أخرى على الشعوب المستضعفة.
واليوم نعيش تجربة حيّة من خلال الحرب الإرهابية التي شنتها هذه الدول وأدواتها الصهيونية على العراق وسورية، فعمدت أولاً وقبل كل شئ إلى تدمير أعرق آثارهما الحضارية، وإنزال ضربات قاصمة ببنيتهما التحتية، وتهجير العلماء والمفكرين، وسرقة النفط، وإثارة النعرات الطائفية، ونشر الفساد، وتدمير الجيوش النظامية حامية البلاد وعنوان وحدتها. ومن الواضح أن الولايات المتحدة الاميركية وأدواتها في المنطقة مصممة على استمرار هذا الإستنزاف، ولذلك فهي تعمد إلى إطالة أمد هذه الحرب في كلا البلدين بحجج واهية لا تنطلي على من يملك أقلّ درجة من التفكير السليم والحكمة.
لا بدّ لنا وأن نقرأ مجريات ومصائر الحوارات والإتفاقات بين روسيا والولايات المتحدة بشأن سوريا من هذا المنظور. فبينما تعمد روسيا للتوصل إلى نقاط واضحة جليّة، وتطالب بنشر هذه النقاط على الملأ، تختبئ الولايات المتحدة خلف أصبعها، وتناور في التسميات والتصنيفات، وتتذرع بوضع إقليمي أو أطراف لن تسمح بإنجاح الإتفاق إذا ما أعلن. وكل هذا وذاك هو من قبيل ذرّ الرماد في العيون كي يستمّر المخطط المرسوم بعناية ودقة، وإذا دعت الحاجة للتعبير عن خطأ ما في المستقبل فإن هذا أمر سهل قد اعتادته الدوائر المعنية في الاعتراف بالخطأ وتسجيل أسف ما لا يساوي قيمة الحبر الذي كتب به.
اللافت في هذه المسألة هو أن الشعوب المتضررة تروّج لمثل هذا الأسف أو الإعتراف بالخطأ على أنه برهان على القيم الديمقراطية والمحاسبة والإعتراف بالخطأ كفضيلة، غير متوقفين عند حقيقة هامة وهي أن أياً من هذه الحروب لم تجر عن طريق الخطأ بل عن دراسة ممنهجة هادفة إلى تدمير بلدان بعينها، خدمة لأدواتهم في المنطقة وللمشروع المعلن لهذه الأدوات. إذ ليس من قبيل المصادفة أن نعش “الربيع العربي” قد حملته أكف أمريكية مع هدية بسيطة قدرها 38 ثمان وثلاثين مليار دولار للكيان الصهيوني كي يحافظ على “قدراته الدفاعية”، وهاهو هذا الكيان يجري أكبر مناورة عسكرية في تاريخه ليوهم العالم أن الأخطار محدقة به من جميع الإتجاهات وأنه قد يتعرض إلى حرب تشنّها جهات عدة عليه، وأنه أمر حيوي لهذا الكيان أن يستعد لمثل هذه الحرب. مجرد فكرة هذه المناورة والإعلان عنها تعتبر رسالةً هامةً للعالم وهي أن “الكيان الديمقراطي” محاصر من قبل أعداء يتربّصون به من كلّ الجهات بينما هو يبغي العيش بحرية وسلام. وهذا بحدّ ذاته يحيّد الأنظار وبقوّة عن الدور الحيوي لهذا الكيان في كلّ ما خرّب منطقتنا وبلداننا من إرهاب منظم ممنهج، وهاهو الدعم الإسرائيلي للعصابات الإرهابية بالمال والسلاح والعتاد والدواء واضح ومستمر،ّ وهاهو تنظير الصهاينة لما اسموه “ربيعاً عربياً” يشكل وقوداً فكرياً ومنهجياً يزيد من لهب هذه النار ولايسمح لها أن تخمد.
خلاصة القول، أنه يكفينا نقلاً ساذجاً عن إعلام غربي يتحدث عن “أخطاء” ويأسف لبعض الهنات، بينما الحقيقة التاريخية ساطعة للعيان وهي أنه لم يحدث شئ عن سبيل الخطأ، ولا شئ ندموا أو أسفوا عليه، بل إن كل ما حدث لبلداننا هو نتاج تفكير وتخطيط استراتيجيين من أجل السيطرة على المنطقة، ونهب ثرواتها، واستعباد شعوبها.
فهل حان لنا أن نرسم خططنا الإستراتيجية للمئة عام القادمة؟ وأن نقرأ الأحداث كلها بمنظار انتماء عميق، وبحواس المدرك لكل أحداث التاريخ والقادر على تفسيرها من منظور وطني بحت، بعيداً عن الدعاية الرخيصة التي طالما استهانت بعقول وفكر الشعوب المستعمرَة، بفتح الراء، على مدى قرون؟
انتهى