حسابات المسار والمصير في الأزمة السورية حسن شقير
على بُعد أيامٍ معدودات من حلول الذكرى الثانية لخطاب الرئيس الأسد الشهير في دار الأوبرا في وسط دمشق ، وتحديداً في السادس من كانون الثاني من العام ٢٠١٣ ، والذي شخصناه في حينه ، بأنه خطاب ٌ تشخيصي ، تشريحي ، إستشرافي ، معياري دقيق لطبيعة الأزمة والحرب التي فرضت على سوريا من جهة ، هذا إضافة إلى خريطة الطريق المفصلة للخروج منها ، بحيث حرص الرئيس الأسد على الإسهاب في شرح مراحلها التفصيلية، من جهة ثانية ..
بعد حوالي السنتين من هذا الخطاب ، وفي نظرة ٍ موضوعية لمضامينه ، نلحظ كم كانت الرؤية عند الرئيس الأسد ثاقبة لطبيعة المحنة التي تعاني منها سوريا .. ليبني بعدها الرئيس الأسد على هذا الفهم والتوصيف الدقيق لهذه الحرب ، مراحل خريطة طريق الحل ، مدموغةً بمعايير محددة ، حرص الرئيس على تبيانها ، وفي كل مرحلة …
من المفيد ذكره هنا ، أن الدولة السورية – ومنذ الأسابيع الأولى لإنطلاق ما سُمي بالحراك الشعبي في سوريا – كانت قد كونت ذاك التشخيص الذي أبرزه الرئيس الأسد في خطابه ذاك ، وتحديداً كون الأزمة ، بعيدة ً عن الثورة الشعبية السلمية ، وعن المطالب المشروعة التي يُفترض بها أن ترفعها هذه الثورة … والدليل على ذلك ما جوبهت به كل مبادرات الدولة السورية التي سارعت إلى رميها في الميدان السوري ، والتي فاضت عما طالب به من يدّعون أنهم منظمو الحراك الشعبي .. والتي – أي هذه المبادرات – لم يكترث لها كل أولئك ، مما جعل من أوراق التوت تتساقط عن أجسادهم الواحدة تلو الأخرى .
من بين ذاك التشخيص الدقيق للأزمة ، هو ما يتعلق بالإرهاب المبثوث والمنثور عمداً في سوريا ، والذي لا يمت بصلة إلى المعارضة ، والذي بدأت الدولة السورية بمحاربته منذ اليوم الأول ، متعهدةً بإكمال المعركة ضده حتى أخر شبر على الأراضي السورية ، والذي برز جلياً في ذاك الخطاب … وبغض النظر عن تطور الموقف الدولي تجاه ذلك .
إذا ما قاربنا الحراك السياسي الحاصل اليوم تجاه محاولة إيجاد حلول – ولو جزئية أو حتى تدريجية – للحرب التي تعصف بسوريا ، انطلاقاً مما سُمي بخطة دي مستورا لتجميد القتال في حلب ، وما رافقها من دخول روسي على خط محاولة جمع أكبر طيف من المعارضة السورية الداخلية منها والخارجية ، مع ممثلي الدولة السورية فيما أطلق عليه بمؤتمر موسكو ١ ، فضلا ً عن الحراك المصري الأخير على خط المعارضة ، والذي اعتبره الساسة المصريين ، بأنه تكاملٌ مع الحراكين الروسي والأممي ، وليس بديلا ً عنهما ..فإننا ، وتجاوزاً لما توصلنا إليه من قناعات حول المقاصد الحقيقية الأولية لمبادرة دي مستورا ، وتقاطعها مع أجندة أمريكا وتركيا وباقي دول التحالف الجديد ، وخصوصاً لناحية التحايل لإستبدال الدولة الوطنية في سوريا بدويلة جديدة ، تُبنى ركائزها الثلاث من الشمال السوري ( الإقليم والجيش والسلطة ) .. وبغض النظر عن بقاء هذا المشروع على الأجندة الأمريكية لغاية اليوم ، فإننا سنستعرض بهذه العجالة -وبعد كل هذا الحراك المشار إليه أعلاه – مسار الآزمة في سوريا واستشراف مصيرها في القادم من الأيام ، وذلك بناءً على معايير خطاب الأسد في كانون الثاني لسنة ٢٠١٣ .
في المسار :
منذ ذاك التاريخ شهد مسار الأزمة في سوريا تطورات لا بد من الوقوف عندها ، لأنها وُصفت في حينه بأنها تأخذ طابعاً مفصلياً واستراتيجياً ، ولعل أبرز تلك التطورات ، كان بإقرار العالم أجمع ، وعبر مجلس الأمن الدولي وبقراره المفصلي ٢١٧٠ ، بأن سوريا تعاني من ارهاب قد استشرى بجسدها ، وأخذ يهدد من خلالها محيطها الإقليمي ، لا بل العالم بأسره … وهذا ما كانت سوريا الدولة تجاهد طيلة الفترة السابقة لإثباته وتبيانه أمام الرأي العام الداخلي والخارجي على حد سواء … هذا ان تجاوزنا اختلاف الأضداد فيما خص الأزمة السورية ، حول كيفية انتشاره بها ، أو حتى أسباب حلوله فيها ، إلا ّ أنه وبغض النظر عن. هذا وذاك ، فقد شهد مسار الأزمة تطوراً مفصلياً في كون بوصلة الخصوم لم تعد واحدة فيما خص النظام السوري ، وأولوية ما يسمى الخلاص منه ، فضلا ً عن وضع الإطار النظري لمكافحة الإرهاب وضرورة التخلص منه …
لم يكن هذا التطور يتيماً في مسار الأزمة السورية ، إنما هناك تطور أخر ، نادراً ما يُسلّط الضوء عليه ، وهو أن مشروع استثمار الإرهاب واستغلاله على الأرض السورية ،وذلك لناحية جعل هذه الدولة دولة فاشلة ، والتي كانت أمريكا تراهن على حدوثه فيها ، وذلك منذ العام الأول لتلك الأزمة ( تصريح هيلاري كلنتون من طوكيو عقب مؤتمر المانحين لأفغانستان الجديدة ، وذلك حول حتمية تطبيق الفصل السابع في سوريا في صيف العام ٢٠١٢ ) … هو أيضاً – أي هذا المشروع – قد فشل فشلا ً ذريعاً ، بحيث أن سوريا ، لم تصبح دولةً تهدد السلم والأمن الدوليين ، والذي يستدعي معها تطبيق مبدأ التدخل لمجلس الأمن ، وبشكل حتمي …
تطور أخر في مسار الأزمة ، لا يقل أهمية عن سابقيه ، وهو أيضاً لا يأخذ نصيبه من الإضاءة على أهميته ، ألا وهو أن صواعق الفرز الديموغرافي والجغرافي ، والذي تقاطعت فيه أهداف الجماعات الإرهابية مع أهداف الكيان الصهيوني ومعه معظم دول التحالف الجديد .. قد تم تعطيلها ونزع فتائلها قبل انفجارها في الجغرافيا والديموغرافيا السورية ، وذلك بفعل العمليات العسكرية للجيش السوري ومعه القوى المساندة ، والتي حرصت على خنق ذاك المشروع باتباع استراتيجية عسكرية مضادة ، وعلى مختلف الأراضي السورية ، والتي كانت مرشحة لذلك ، سواء في حمص أو حلب ، أو حتى في القلمون ، وغيرها من المناطق الأخرى …
لقد كسبت الدولة السورية ، مجموعة من النقاط المهمة جداً في مسار الأزمة ، والتي جعلت مشروع الإستنزاف للدولة السورية ومعها محور الممانعة ، هو المشروع الوحيد الذي يُعول عليه خصوم سوريا وأعداءها على حد سواء ..
في المصير :
ولكن إذا كانت سوريا قد كسبت لناحية المسار ، إلا ّ أنه ما زال عليها العمل كثيراً على المصير ، والذي ما زال لغاية اليوم ، وبتنوع أصعدته ، بحاجة إلى الكثير الكثير من العمل ، ليبدأ تسجيل النقاط لمصلحتها من خلاله … وذلك من خلال جعل المصير ببعديه : الوجودي والزمني يلعبان لصالح الدولة السورية … فكيف يمكن لذلك أن يتحقق ؟
لعل الحراك الروسي اليوم ، والذي يحاول جاهداً لجمع أكبر وأوسع طيف من المعارضة السورية ، سواء الداخلية منها ، أو حتى الخارجية …والتي تمثل أطرافاً مسلحة وغير مسلحة على الأرض السورية ، لهو سعيٌ في الإتجاه الصحيح ، وخصوصاً إذا ما ترافق ذلك مع دمج لبندي جدول الأعمال ( المرحلة الإنتقالية ومحاربة الإرهاب ) بحيث أن الحكومة السورية ، لا بد لها أن تُحدث اختراقاً ما في جدول الأولويات لما هو مقترح في مؤتمر موسكو ١ ، وذلك لإسقاط الحجج والذرائع ، وتعرية كل أولئك من المعارضين المتربصين بوحدة سوريا وسيادتها ، ونزع الشرعية – أقله السورية – عنهم وعن مشاريع رعاتهم من بعض دول التحالف ، والتي عملت ، ولا زالت تعمل على تقسيم سوريا بعد استنزافها إلى أقصى الحدود … وقد يكون ذلك من خلال طرح القيادة السورية بدمج المراحل الثلاث لحل الآزمة ، والتي تحدث عنها الرئيس الرئس الأسد في الخطاب المشار إليه أعلاه ، وذلك بالتزامن مع محاربة الإرهاب، والذي تجري اليوم وغداً ، وليُصبح هذا وذاك بمباركة الجميع هذه المرة ..
ربما ، وبهذه الألية ، ستبدأ سوريا الدولة بأولى خطواتها في تعزيز مصيرها الوجودي ، وذلك من خلال تكامل كافة ألوان الطيف السياسي السوري ، وخصوصاً أولئك الذين سيسيرون بهذه الألية في مؤتمر موسكو ١ ، فيزداد الخناق حينها – ولو شعبياً – على من لم يسر بهذا الركب الجماعي ، وترتد حينها سياسة العزل التي مارسها هؤلاء مع أسيادهم على أعقابها …
ربما بهذه الطريقة ، يمكن لمصير سوريا المستقبلي أن يصبح أكثر وضوحاً مما قبل ، ومعه قد تصل الأزمة في نهاية المطاف ، إلى طريقٍ أحادي لا ثاني له ، يكون عنوان انتصاره لاحقاً ، متمثلا ً ، بالحفاظ على مصير سوريا كدولة واحدة موحدة لجميع بنيها … وبغض النظر عن تركيبة النظام السياسي الذي سيحكمها ، أو حتى هوية أربابه .. فالعبرة في تكامل المسار والمصير في سوريا ، وذلك ببعديه الوجودي والزمني على حد سواء .