معركة الحسكة والاستثمار الإقليمي والدولي: عبد الله سليمان علي
لم تكشف معركة الأيام الستة في الحسكة عن هشاشة العلاقة بين الحكومة السورية من جهة و «حزب الاتحاد الديموقراطي» من جهة ثانية، فحسب، بل كشفت أيضاً عن وجود شهيّة إقليمية ودولية لاستثمار الحدث والعمل على توسيع الهوة بين الطرفين لتحقيق غايات مختلفة .
ويرتبط الصراع في الحسكة بجملة التطورات التي تشهدها منطقة الشهباء الاستراتيجية، هذا إذا لم يكن مجرد انعكاس لهذه التطورات. وتمتد منطقة الشهباء على مسافة 102 كيلومتر من غرب نهر الفرات حتى سلسلة جبال ليلون في عفرين، وبعمق 55 كيلومترا بحيث تشمل كلا من جرابلس ومنبج والباب وتادف وإعزاز ومارع وتل رفعت، وتصل إلى بعض المناطق شمال مدينة السفيرة التي يسيطر عليها الجيش السوري وتعتبر معقلاً اساسياً له وللقوات الحليفة له.
وتعد منطقة الشهباء بؤرةً تحتشد فيها العديد من الأجندات والمشاريع المتضاربة، وهي مدخلٌ أساسي للدول المعنية بالحرب السورية من أجل التأثير في مجريات الأحداث في العمق السوري. لذلك كان من الطبيعي أن تنعكس التطورات فيها على باقي المحافظات، خصوصاً تلك التي ترتبط معها بمشروعٍ ما، كحالِ محافظة الحسكة المشمولة بمشروع الفدرالية الكردية المدعوم أميركياً. يعزز ذلك أن الحدود والمسافات بين الأجندات والمشاريع المختلفة باتت ضيقة للغاية، وأصبح هامش المناورة شبه معدوم بعد سيطرة القوات الكردية على مدينة منبج وتوجهها نحو مدينة الباب التي يرابط الجيش السوري في ريفها الجنوبي منذ سيطرته على مطار كويرس، مقابل سيطرة الفصائل المسلحة المدعومة تركياً على بلدة الراعي، الأمر الذي أطلق جرس الانذار جراء تقارب خطوط التماس بين قوات متصارعة في ما بينها ومدعومة من جهات إقليمية ودولية مختلفة، خصوصاً في ظل التحرك التركي نحو جرابلس عبر فصائل مدعومة من قبلها بعد ايام فقط من بدء التقارب الروسي ـ التركي.
وقد أدت هذه التطورات إلى انهيار خط الثقة الأخير بين الأطراف، وتعززت شكوك كل طرف بنيات الطرف الآخر، فاشتعلت الحسكة كارتداد لذلك، وكرسالةٍ بأن «السيل بلغ الزبى»، وبأن أي خطوة جديدة في منطقة الشهباء ينبغي أن تراعي المصالح المتباينة وتخضع لتسوية متفق عليها، وإلا قد تنفجر الأمور في أي لحظة.
وخلافاً لظاهر الحال الذي ارتسم جراء النجاحات العسكرية للأكراد ضد تنظيم «داعش» تحت غطاء جوي أميركي، يبدو أن الطرف الكردي المتمثل بـ «حزب الاتحاد الديموقراطي» وذراعيه الأمنية والعسكرية «الأسايش» و «وحدات الحماية» هو الطرف الأضعف في هذا الصراع، والأكثر تعرضاً لضغوط داخلية وخارجية، سواء نتيجة عدم قدرته على الاستغناء عن العاصمة دمشق على الأقل على المدى المتوسط، وكذلك نتيجة تدهور علاقته مع المكونات الكردية الأخرى، وعلى رأسها «المجلس الوطني الكردي» داخلياً، وكردستان العراق خارجياً، أو بسبب وقوعه بين خيارات صعبة تتمثل في عداء دمشق وشركائه في القومية بسبب مشروع الفدرالية، أو في إقامة المشروع الفدرالي، لكن وفق صيغ وشروط أميركية بحتة. وربما هذا ما يفسّر أن لحظة الافتراق بين دمشق والأكراد لم تحن بعد، برغم مستوى الاقتتال الذي حصل بينهما واستخدمت فيه الطائرات للمرة الأولى. ومما له دلالته، أن «وحدات الحماية» في ذروة الاقتتال وما تبعها من مفاوضات، لم ترفض بقاء الجيش السوري أو الشرطة كمؤسستين في مدينة الحسكة، بل حصرت مطالبها بـ «وحدات الدفاع الوطني».
غير أن الأمور يمكن أن تتغير في أي لحظة بسبب الحساسية البالغة التي وصل إليها الموقف في منطقة الشهباء وفي مدينة الحسكة، ومن غير المستبعد في ظل هذه التطورات أن يلجأ الحزب الكردي إلى بيع آخر أوراقه لواشنطن وبعض الدول الأخرى التي بدأت تعرض مساعداتها.
وقد كان لافتاً ما كشفته مصادر مقربة من «وحدات الحماية» لـ «السفير» حول تقديم السعودية خلال الأيام الماضية عرضاً بمساعدة الوحدات ودعمها بالمال والسلاح مقابل أن تستمر في القتال ضد الجيش السوري في الحسكة. وأكدت المصادر أن هذا العرض تم تقديمه عبر قنوات رسمية خلال اجتماع ضم ممثلين عن الطرفين.
كما كشفت المصادر أن هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها السعودية التقرب من «وحدات الحماية» ومحاولة استمالتها إلى طرفها، مشيرة إلى أن المملكة الخليجية قدمت في السابق عروضاً عدة لمساعدة «الوحدات» بشرط إنهاء حالة التهدئة مع الجيش والعمل على محاربته في جميع مناطق تواجدها.
وإذ تشير العروض السعودية المقدمة للقوات الكردية إلى كون نفوذها في منطقة شمال حلب قد بات شبه معدوم، خصوصاً في ظل الاستقطاب الحاصل بين أنقرة وبين واشنطن، حيث أصبحت الفصائل منقسمة بين هذين الطرفين وسط غياب أي تأثير يذكر للجانب السعودي، فإنها من جهة أخرى تشير إلى مدى تعقد خريطة الصراع في المنطقة، لا سيما أن العرض السعودي يناقض تحالف الرياض مع أنقرة، لكن على ما يبدو، فإن السعودية أيضاً لديها هواجس من احتمال حصول تقارب تركي ـ روسي يستفيد منه عدوها الأول، النظام السوري، لذلك تحاول مد جسورٍ مع الأكراد.
من جهة أخرى، بدأت تتكشف بعض الحقائق بخصوص التحالف الأميركي – الكردي، الذي فرضه في البداية الأمر الواقع المتمثل بهجوم «داعش» على عين العرب «كوباني» أواخر العام 2014، ثم تطور حتى وصل إلى مستويات متقدمة من دون أن تتسرب أي معلومات حول ماهيته وغايته وأهدافه الحقيقية.
وفي هذا السياق، أكدت لـ«السفير» مصادر إعلامية تعمل ضمن منظومة «وحدات الحماية» أن العلاقة بين واشنطن و «وحدات الحماية» تنطوي على العديد من التجاذبات والتناقضات التي يحرص الطرفان على عدم ظهورها للعيان. واشارت إلى أن العلاقة بين الطرفين قائمة حتى الآن على مفهوم «تقاطع المصالح» المستند إلى الحرب ضد «داعش»، مشددة على أن الجانب الأميركي حاول توثيق هذه العلاقة باتفاقات رسمية بين الطرفين، لكن الجانب الكردي كانت لديه تحفظات على العديد من الشروط الأميركية، الأمر الذي أخّر توقيع أي اتفاق بينهما، كما أنه أدّى بحسب المصادر إلى تقنين الدعم الأميركي المقدم للقوات الكردية ورفض تقديم مساعدات نوعية من دون ثمن سياسي أو عسكري أو أمني بالمقابل.
وتبرز مدينة جرابلس كنموذجٍ لمحاولة واشنطن ابتزاز الجانب الكردي بشكل غير مباشر. فهي لا تزال تلتزم الصمت تجاه الأنباء التي تتحدث عن سماح تركيا لحشود من فصائل «الجيش الحر» بعبور أراضيها والتمركز بالقرب من معبر قرقميش بهدف اقتحام مدينة جرابلس في محاولةٍ واضحة لقطع الطريق أمام مشروع الفدرالية الكردية.
وفي هذا السياق، أفادت المصادرُ نفسُها «السفير» أن واشنطن لم تمنح القوات الكردية الضوء الأخضر للتحرك باتجاه جرابلس، وهو ما يعتبر تلاعباً أميركياً بحساسية الموقف ومحاولة استثماره سياسياً وعسكرياً، خاصةً أن المصادر كشفت عن امتلاكها معلومات حول أن مواضيع جرابلس والباب وأيضاً تادف ستكون على طاولة البحث في أنقرة مع جون بايدن، نائب الرئيس الأميركي الذي يعتزم زيارة تركيا يوم غدٍ الأربعاء، ما يعني أن واشنطن لا تزال حريصة على الحفاظ على التوازن بين الأكراد وتركيا وفق النهج ذاته الذي اتبعته بخصوص منبج والذي لم يكن مرضياً للأكراد بشكل كامل.
وحول أهم الشروط التي تحاول واشنطن فرضها على الأكراد، قالت المصادر إن العديد من الشروط لا تملك معلومات عنها إلا حلقةٌ ضيقة من قيادات الصف الأول. غير أن بعض الشروط الأخرى، منها ما يتعلق بحجم ونوعية التواجد العسكري الأميركي في القواعد التي تم إنشاؤها في مناطق «الادارة الذاتية»، ومنها ما يتعلق بالضغط من أجل إدخال مقاتلي «بشمركة روج آفا» المقربين من «المجلس الوطني الكردي» إلى سوريا منتقلين من كردستان العراق حيث يتلقون التدريبات ولهم معسكرات خاصة. بل اشارت المصادر إلى أن الولايات المتحدة ضغطت أكثر من مرة لفرض مشاركة «بشمركة روج آفا» في بعض المعارك، خصوصاً في معركة الرقة.
وإذ أكدت المصادر أن «وحدات الحماية» رفضت ولا تزال ترفض هذه الشروط، كما رفضت العرض السعودي، إلا أنها لمَّحت إلى أنه أمام التطورات الأخيرة والغموض الذي يلف مصير جرابلس، وبالتالي ما تبقى من منطقة الشهباء، قد تضطر إلى التنازل والتوقيع على ورقة الشروط الأميركية كي تتفادى سيناريو ما زال يمثل هاجساً بالنسبة لها، وهو تشويه مشروع الفدرالية، وذلك عبر إعطاء الشريط الحدودي بين جرابلس وإعزاز كمنطقة نفوذ لتركيا، مقابل السماح للوحدات الكردية بالوصول إلى كانتون عفرين عبر ممر ضيق من خلال قرية احرص فقط، وهو ما ترفضه الوحدات حتى الآن وتعبر للطرف الأميركي عن عدم موافقتها على دخول أي فصيل مسلح إلى جرابلس أو إلى أي بلدة أخرى في منطقة الشهباء. وتشدد المصادر على أن الأمور ستظل معلقة على حالها ريثما تتبين نتائج الاجتماعات في أنقرة مع نائب الرئيس الأميركي.
(السفير)