العلاقة الروسية الإيرانية أهمّ… وتستحق
ناصر قنديل
– يثير الجدال الروسي الإيراني العلني حول التعاون العسكري النوعي الذي ربط الدولتين الأهمّ في العالم الجديد، حزناً وعتباً لدى كلّ المؤمنين بأنّ بناء عالم أشدّ توازناً، يتوقف على تعاون عاصمتين تحملان عبء تصحيح المعادلات الدولية المريضة التي أرستها واشنطن وتسبّبت عبرها بالخراب والدمار في أكثر من مكان، ويُفرح أصدقاء موسكو وطهران بكون العلاقة بين العاصمتين المختلفتين في أشياء كثيرة قامت على درجة عالية من المصداقية والتفهّم المبتادل. نجحت كلّ من موسكو وطهران في رفع منسوبها تدريجياً، رغم الخصوصيات والحساسيات المحيطة بتعاونهما، فإيران دولة عقائدية إسلامية تنطلق من تاريخ إمبراطوري ومن أنفة وكبرياء وتطلّع لدور عالمي، وروسيا دولة إمبراطورية ليبرالية تنطلق من وطنية عالية، وتاريخ قيصري عريق، ودور مؤثر للكنيسة الأرثوذكسية، والجغرافيا التي تتوسّط الدولتين الأهمّ في حوض قزوين وما حوله، من ثروات ونزاعات، بقيت تحت السيطرة رغم تعقيداتها ولم تنجح في إرباك مسيرتهما المشتركة في التعاون، ولا تفاوت التكتيكات الناجمة عن تباين المواقع أدّت لتصدّع الحلف بينهما، خصوصاً في الحرب التي تشهدها سورية، والتي تحتلّ موقعاً هاماً وحاسماً في استراتيجيات العاصمتين، فمن الطبيعي أن يُصاب الأصدقاء بالذهول وأن يعبّروا عن العتب عندما لا تتمكن الجهات المسؤولة في وزارتي الدفاع من ضبط التخاطب تحت سقف هذا التاريخ من النجاحات والمستوى من التحديات، وألا يمنحا الأعداء المتربّصين بهما وبحلفائهما فرصة الابتسامة الصفراء، حتى لو كان الحلف المقابل يتفكك ويقول أركانه ببعضهم أسوأ القول كلّ يوم .
– ليس معيباً لروسيا أن تظهر انتشارها العسكري خارج حدودها، أبعد من مجرد حاجة لوجستية للحرب في سورية، أو أن تقدّمه تعبيراً عن تصرفها كقوة عظمى، فالمأخذ الدائم على روسيا أنها تترك حلفاءها بلا الغطاء الموازي لما تقدمه أميركا، لأنها لا تتصرف بما ينبغي عليها كدولة عظمى، وفي سلوك الدولة العظمى بعض من الاستعراض الذي لا يستهدف الحلفاء ولا يسعى للانتقاص من مهابتهم ولا إظهارهم بتابعين، أو أدوات، بل شركاء يتقدّمون طوعاً ليضعوا أمام موسكو فرص التصرف كقوة عظمى، لا تستثمر تنامي عظمتها بلغة ولا بطريقة ولا لأهداف استعمارية، بل تعيد تدوير عائد العظمة المحققة بتضحيات شارك فيها الحلفاء وثبات كان لهم فيه يد طولى، لينالهم من هذا العائد نصيب. وفي المقابل لا يعيب إيران ان تتطلع لمعاملتها كدولة شريك ندّي من قبل روسيا، وهي ليست دولة صغيرة، ولا دولة تطلب الحماية، وهي الدولة العظمى في الإقليم الذي تدور فيه وحوله الصراعات الكبرى، وهي الدولة التي تبلغ في التصنيع العسكري مرتبة الدول العظمى، والتي تملك قوة عسكرية تتخطّى مقدرات الدول العظمى، فلها على روسيا أن يُقام حساب لخصوصيتها السيادية، وأن يقدّر عالياً معنى تجرّؤها على فتح مطاراتها أمام القاذفات الروسية ليس لدواعٍ لوجستية وحسب بل كتعبير عن جسر فولاذي تقيمه الدولتان بوجه الهيمنة الأميركية التي عبّر أصحابها فوراً عن قلقهم من هذا التعاون.
– قدرٌ من الهدوء والبرود الذي يتقنه صناع السياسة والقرار في البلدين، وقدرٌ من المراعاة والتخاطب، تحت الطاولة تحتاجه اللحظة بينهما، بمقدار ما نحتاج نحن المقاومين بوجه الهيمنة الأميركية بأدواتها المتوحشة، إلى التماسك الروسي الإيراني، وإلى الصورة البهية للتعاون بينهما، وإلى الغيظ يسود وجوه الواقفين على ضفة العداء، وثقة عند كلّ الحريصين والأصدقاء، والذين يرون خيارهم وليس رهانهم يحقق الربح ويقترب من النصر، بأن تدخُّل القيادات الممسكة بخيوط القرار فتتمكّن سريعاً من تطويق ذيول السجال الذي يصحّ فيه القول ربّ ضارة نافعة، لتتأسّس اللغة التي تحكم التخاطب بين موسكو وطهران، على مراعاة متبادلة لحساسيات وحسابات وخصوصيات، هي حق لكلّ منهما.
– الحلف التاريخي الذي يتقدّم، والذي أسماه الصديق الدكتور فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السورية، بحلف الشرق والشرف، لا يُبنى فقط بالإنجازات، بل بالتعلم من نقاط الضعف والسعي السريع لترميمها، كتعبير عن التفهّم المتبادل للخصوصيات، فهو حلف يتأسّس على المصالح، لكنه يتأسّس أيضاً على منظومة قيم تتقدّمها فكرة دولة الاستقلال الوطني، وما تعنيه من احترام متبادل لمقتضيات ممارسة مفهومها في كلّ من دول هذا الحلف، الذي لا تشبه دوله بعضها إلا بانتمائها لمنظومة الشرق والشرف كدول للاستقلال الوطني، هو حلف يتعمّد بالدم والنجاحات والوضوح والمصارحة والتصحيح أيضاً، ليقدِّم نموذجاً واقعياً عن كيف يمكن للسياسة والأخلاق أن يجتمعا، في عالم مليء بالمشاكل والتعقيدات فيتغلب عليها ويمضي قدماً لتحقيق المزيد من الإنجازات، التي يتوقف مصير الكثير من الشعوب المظلومة والكثير من المعذبين في الأرض على تحقيقها.
(البناء)