مقالات مختارة

ترامب والكنائس الأميركية د.منذر سليمان

 

       جهود المتنفذين في الكنائس المسيحية الاميركية للتعامل معها ككتلة موحدة تتنافى مع القوانين الاجتماعية التي تؤثر وتتأثر بالتنوعات الديموغرافية والاقتصادية والدوافع السياسية لتوجهات قطاعات المتدينيين من “المسيحيين المتجددين .”

انفرجت اسارير التيارات الاشد عنصرية في المجتمع الاميركي لدخول دونالد ترامب حلبة السباق الرئاسي، لما يمثله من تطابق “فكري” مع معتقداتهم السياسية والاجتماعية، وبشكل خاص لقناعة غالبيتهم بأن “الولايات المتحدة كانت عظيمة واستثنائية قبل تمييع نسيجها الغالب من العرق الابيض بدخول اقليات وملونين ومطالبتهم بمساواة الحقوق.”

ليس عسيرا على المرء تلمس ابعاد خطاب ترامب العنصري، انطلاقا من شعاره المركزي “لنعيد العظمة لاميركا مرة اخرى.” كما ينبغي النظر الى محور تحركاته وتمركزها في الولايات والتجمعات السكانية التي تشهد توترات اجتماعية، اريزونا والاباما بداية، وتحميله “اللاجئين غير الشرعيين” مسؤولية تدهور السلم الاجتماعي وارتفاع معدلات الجريمة؛ فضلا عن ارتباطاته واحجامه عن انهاء علاقاته مع تنظيمات البيض العنصرية – كو كلاكس كلان.

التفاف التيارات المتدينة، من المسيحيين، وراء ترامب شكل استثناء للقاعدة العامة التي كانت تعول على دعم المرشح المتدين مايك هاكابي، بداية، ومن ثم تيد كروز. بيد ان سردية ترامب المجردة من الكياسة الديبلوماسية لاقت رواجا عاليا واقبالا واسعا في اوساط تلك الشريحة، المسيحيين الانجيليين، التي لا زالت تؤيده بنسبة ثابتة، نحو ثلث الجمهور الانتخابي.

تتباهى الدولة الاميركية بنموذج ديموقراطيتها المستند على قاعدة “فصل الدين عن الدولة؛” بيد ان الخطاب والالتزام الديني هو الاشد تأثيرا ونفوذا، كما تجسده تركيبة المحكمة العليا منذ زمن بعيد، اذ غالبية قضاتها هم من اشد المحافظين والداعمين للتيارات الدينية – المسيحية البيضاء بالطبع.

في جانب السلطة التشريعية، لا يغيب الخطاب الديني عن المشهد اذ يعمد الممثلون القادمون من مجتمعات محافظة، خاصة في جنوبي الولايات المتحدة، الى تذكير الآخرين بأن “اميركا هي بلد مسيحي، وينبغي المحافظة على هويته تلك.”

حجم الجمهور الانتخابي “المسيحي” تراجع بعض الشيء في السنوات الاخيرة مرده الهزات الاجتماعية والاقتصادية التي لا زالت تعصف بالبلاد، لكنه لا يزال جسما باستطاعته ممارسة نفوذ ملموس.

اشار استطلاع للرأي اجراه معهد بيو، عام 2014، الى ميل اغلبية الناخبين للولاء الديني بشكل اساسي، وافصح نحو 73% عن “مسيحيتهم،” خلال الانتخابات النصفية؛ منهم نحو 36% يدينون بالولاء للمسيحية الانجيلية، مقابل 37% هويتهم مسيحية لكن لا يؤيدون التيار الانجيلي.

حصة الحزب الجمهوري من المتدينين هي الاعلى: 85% من ناخبي الحزب يعتبرون انفسهم مسيحيين؛ 45% منهم ينتمون للمسيحية الانجيلية. ويشكل العنصر الابيض نحو 87% من مجموع المسيحيين الجمهوريين.اللافت ايضا ان 64% من مؤيدي الحزب الديموقراطي تتقدم هويتهم المسيحية على الهوية الوطنية، و”الانجيليون” منهم ليسوا من البيض.

اتباع الكنيسة الكاثوليكية من اميركا اللاتينية يصطفون بنسبة كبيرة الى جانب الحزب الديموقراطي؛ بينما تميل كتلة “الكاثوليك البيض” لتأييد الحزب الجمهوري.

الهوية الانجيلية واصواتها

تجمع المؤسسات الاميركية على تعريف ماهية المسيحية الانجيلية بأن عناصرها “تتردد على الكنائس اسبوعيا بانتظام،” كما اوضح معهد بيو سالف الذكر، ويعولون على دور الدين في حياتهم اليومية؛ يمارسون الصلاة يوميا ويتبعون التفسير الحرفي للكتاب المقدس وبأنه “كلام الله.” في سياق تقسيم المتدينيين على المدارس (المذاهب) المسيحية المتعددة، تعتبر الكنيسة البروتوستانتية الاقرب للمسيحية الانجيلية من الكنيسة الكاثوليكية.

تجدر الاشارة الى ان القسم الاعظم من الناخبين الاميركيين، ذوي الهوية المسيحية، لا يذهبون لصندوق الاقتراع ككتلة انتخابية موحدة، كما ورد سابقا. بيد ان جوهر المسألة، فيما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني، يقتضي الغوص في حصر التفسيرات اللاهوتية المعتمدة – السردية اليهودية وكتاب العهد الجديد – لتشكيل وعي الرعية الدينية لحقيقة “اسرائيل،” وهي عينها التي أسست لدعم “البيض” نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا لعهود طويلة.

يراهن قادة الحزب الجمهوري وحملة المرشح ترامب على تباينات قد تؤدي لانشقاقات داخل “الصف المسيحي” تؤدي لعزوف المزيد منهم عن دعم مرشحة الحزب الديموقراطي. يشار الى ان نحو 80% من “المسيحيين الانجيليين” صوتوا لصالح المرشح الجمهوري السابق ميت رومني، والباقي 20% ايدوا المرشح اوباما، عام 2012. نسبة التأييد لرومني حافظت على مستوياتها السابقة في دعم جورج بوش الابن عام 2004.

بيد ان الانقسام داخل صفوف المسيحيين الآخرين كان اشد وضوحا وتوزع بنسبة متساوية بين المسيحيين البيض. المنتمون للكنيسة البروتوستانتية اصطفوا بنسبة 54% لجانب المرشح الجمهوري ميت رومني، مقابل 44% أيدوا المرشح اوباما؛ وهي نسبة شديدة التطابق مع خارطة توزيع الاصوات في دورة الانتخابات عام 2008 التي اسفرت عن تأييد 55% من البيض البروتستانت للمرشح الجمهوري جون ماكين، مقابل 44% للمرشح اوباما.

اتباع الكنيسة الكاثوليكية ايضا انقسموا بنسب متقاربة في دورتي الانتخابات السابقتين: 59% صوتوا للمرشح رومني (2012)، مقابل 52% للمرشح الجمهوري ماكين عام 2008. اما كاثوليك اميركا اللاتينية فقد صوتوا بنسبة الاغلبية المطلقة للمرشح اوباما، 2012.

تفادى ترامب الافصاح الصريح عن انتمائه الديني، بخلاف اقرانه الآخرين تيد كروز ومايك هاكابي، وبالرغم من ذلك فقد اصطفت اغلبية المسيحيين الانجيليين خلفه، وهذا لا يعني ان ترامب يشكل “المرشح الامثل” للمتدينيين، وفق ما افاد مساعد مدير معهد بيو للابحاث، غريغ سميث. واوضح ان نحو 45% من اولئك المتدينيين سيصوتون لترامب نكاية بالمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، والحافز الاساس لمناهضة ترشيحها هو آلية تفكير القطاع المتدين في رؤيته للدورة الانتخابية الراهنة.

واضاف المعهد ان نتائج استطلاع اجراه في شهر حزيران من العام الجاري اظهرت تنامي التأييد لترامب بين صفوف المسيحيين الانجيليين بشكل عام والبيض منهم بشكل خاص، وبنسبة اعلى مما حصل عليها ميت رومني عام 2012؛ خاصة لتوجهاته المؤيدة لقضاياهم في الحق بالتسلح ومكافحة الارهاب ومشروعه الاقتصادي، رغم ضبابية وهلامية تفاصيله.

وعليه، من المتوقع ان يصوت لترامب نسبة 78% من تلك الفئة، مقارنة بما ناله ميت رومني من تأييد نسبة 73%؛ مما يدل على دور المعتقد الديني في التوجهات الانتخابية دون اهمال العوامل الاخرى التي تسهم في تحديد رؤيتهم للقضايا العالمية.

ثبات نسبة تأييد شريحة المتدينيين البيض للمرشح ترامب تقودنا الى ادراك هواجس تلك الفئة واعتقاد نسبة النصف تقريبا بأن عقبات عدة تعترض مسارهم في ممارسة شعائرهم الدينية في المجتمع الاميركي، مقارنة مع نسبة 18% من الكاثوليك الذين يشاطرونهم القلق.

يشار الى ان ترامب ادرك مبكرا اهمية التودد لشريحة المتدينيين واعرابه عن عزمه الغاء التشريع المتعلق بتقييد رجال الدين من ممارسة السياسة، والذي يعرف بتعديل جونسون في القانون الاميركي. المادة تبناها الرئيس الاسبق ليندون جونسون في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، ابان خدمته في مجلس الشيوخ لحرمان قساوسة ولاية تكساس من تنظيم معارضة شعبية ضده.

المسيحيون الانجيليون و”اسرائيل

رصد التوجهات الدينية فيما يخص الصراع العربي – الصهيوني مسألة بالغة الأهمية، وربما تستدعي العودة لها في تقرير قادم؛ فالمساحة المحدودة المخصصة للموضوع بين ايدينا تتحكم بالحيز المتاح، ورصد بعض تجلياتها.

الدعاية الصهيونية المكثفة في العقود الماضية داخل صفوف “المسيحيين الانجيليين” تحديدا ادت لارتفاع معدل التأييد لسياسات “اسرائيل،” بنسبة تعادل او تتفوق على مثيلتها بين الناخبين اليهود – وقد اوضحنا ظاهرة عزوف اليهود الاميركيين عن التأييد الاعمى لتوجهات القادة في تحليل منفصل.

للدلالة على تراجع دعم اليهود، اوردت وكالة خدمة الاخبار اليهودية في تقرير لها ان “نواة الناخبين الانجيليين يتعبرون تأييد اسرائيل احد العوامل على رأس قائمة الاهتمامات، وربما في مرتبة الخمس الاولى، عند تأييد مرشح رئاسي بعينه في الانتخابات التمهيدية.”

اللوبي “الاسرائيلي” المؤثر، ايباك، يؤكد في ادبياته ان “تجمع المسيحيين الانجيليين يلعب دورا حيويا في بلورة العلاقات الاميركية الاسرائيلية.” يضاعف اللوبي مساعيه لطلب ود قادة تلك المجموعة من القساوسة وتجنيدهم لحشد الدعم الشعبي “لاسرائيل،” واصدر سلسلة ادبيات موجهة تحت عنوان “الكنيسة الخاصة بك وايباك،” التي ترصد مديات الدعم والتأييد لبرامج اللوبي وتوضيح مبررات الدعم بانها “تعود الى التقيد بالتعاليم الانجيلية ونسبة التردد على نشاطات الكنيسة.”

جدير بالذكر ان نسبة تأييد “اسرائيل” داخل المجتمع الاميركي تخضع لتقلبات السياسات المتبعة والتطورات الاقليمية. في اوج التحشيد الاعلامي ضد الملف النووي الايراني، اعرب نحو 64% من البيض الانجيليين عن تأييدهم “لاسرائيل،” مقارنة مع تأييد نسبة 39% بين صفوف بقية المجتمع.

تتبع الكنائس الانجيلية توجهات مؤسسة سياسية بلباس اكاديمي لاهوتي، تدعى لايف واي ريسيرتش LifeWay Research، تزعم ان مهمتها تكمن في “تنوير الكنيسة للاحداث المعاصرة بنظرة مقاربة.” اوضحت “المؤسسة” في نشرتها الصادرة في آذار / مارس 2013 ان نحو “72% من البيض الانجيليين يؤيدون اسرائيل في نزاعها مع الفلسطينيين، مقارنة بنسبة تأييد 49% لها بين مجموع الاميركيين.” كما اوضحت رفض 50% تقريبا من الفصيلة عينها لقيام دولة فلسطينية مستقلة؛ مقارنة مع رفض 33% بين صفوف اليهود الاميركيين.

على الطرف المقابل، تتنامى مشاعر عدم الارتياح من السياسات “الاسرائيلية” بين قطاعات واسعة من الشعب الاميركي، وبعض كنائسه المؤثرة. اذ صوت المجلس الاداري للكنيسة اللوثرية الانجيلية الاميركية لمقاطعة “اسرائيل،” الاسبوع الماضي، وحث اتباعه على ممارسة الضغط على ممثليهم في الكونغرس ولدى الادارة الاميركية واشتراط تقيد “اسرائيل بقواعد حقوق الانسان، ووقف اعمال توسيع رقعة المستعمرات الحالية” كمقدمة لتلقي المساعدات الاميركية المالية والعسكرية والاقتصادية.

يعد موقف الكنيسة متقدما في سياق السياسة الاميركية وخضوعها لاملاءات مجموعات الضغط واللوبي “الاسرائيلي،” وتحفيز مواقف مماثلة من الكنائس الاخرى، وجاء ثمرة سلسلة من الجهود والمواقف السابقة لممارسة الضغوط وادخال توازن على مسار السياسة الخارجية لاميركا، وتأييدها انشاء دولة فلسطينية.

يذكر ان للكنيسة اللوثرية شبكة كنائس عاملة تتبعها وتشرف عليها في فلسطين، كما تلعب دورا فاعلا في تقديم الدعم للاجئين السوريين.

مهّد المرشح ترامب ارضية تأييده داخل صفوف المسيحيين واخضع خطابه السياسي مؤخرا للهجة متصالحة مع التيار الديني، دشنها بخاتمة خطاباته “يبارككم الله.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى