المقاومة فعل دفاعٍ عن النفس والإنسانية د. عصام نعمان
بعد بزوغ عصر العولمة والاستقطاب الدولي والتكالب على السلطة وإساءة استعمالها، وصعود ظاهرة الإرهاب والعنف الأعمى وشمولها معظم دول العالم على اختلاف نُظُمها السياسية، وضلوع الشبكات الحاكمة في عمليات نهب الموارد العامة للشعوب والجماعات وإهدار مصادر رزقها، وتراجع مستلزمات صحتها العامة وضماناتها الاجتماعية، أضحت الحكومات غير مؤهَّلة لتؤتمن على حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. ذلك كله يستوجب نهوض الإنسان، فرداً وجماعة، محلياً وقطرياً وعالمياً، الى إمساك قضية حقوقه بيديه في إطار أوسع تضامن ممكن مع شركائه في معاناة مظالم الاستبداد والإفقار والتهميش ومواجهتها.
الى ذلك، إذا كانت الأمة قد أضحت نتيجةَ تلك الفواعل والمفاعيل السابقة الذكر شتاتاً في عقر دارها، ومكسرَ عصا لكلّ دخيل طامع، ومنهبةً لأفراد وشبكات من الداخل والخارج، فإنّ التصدّي لتحدّي إنهاضها ونهوضها يبدأ من الإنسان بعدما أضحى، بفعل ثورة الاتصالات والمواصلات والبث اللحظوي للمعلومة والمعرفة، أكثرَ قوة واقتداراً واستعداداً للمشاركة في حركات وحراكات وحملات لمواجهة آثار القعود والركود والانحطاط. بكلمة، أصبح أكثرَ استعداداً للمقاومة.
المقاومة نوعان: ميدانية ومدنية
المقاومة الميدانية هي فعل الدفاع عن النفس والأرض والموارد والمصالح بكلّ الوسائل المتاحة، بما في ذلك السلاح. المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضدّ المحتل الصهيوني العنصري الاستيطاني الاقتلاعي تجسيدٌ حيّ لمفهوم المقاومة الميدانية.
المقاومة المدنية هي الدفاع السياسي والثقافي والاجتماعي والقانوني عن الذات الوطنية والكرامة الإنسانية في آن، كما هي مشاركة حميمة بوسائل سلمية في الدفاع عن الأرض والموارد والمصالح.
الأمن هاجس «إسرائيل» المزمن. الهيمنة هاجس أميركا المقلق.
التخطيط الأميركي و«الإسرائيلي» تقاطعا وتكاملا، ولا سيما بعد صعود «الإرهاب الجهادي»، في مخططات مشتركة، او على الأقلّ منسّقة، لتعزيز المصالح العليا وضمانها من خلال تحقيق الأغراض الاستراتيجية الآتية:
اولاً: تفكيك الدول الموحّدة Unitary States في المنطقة وتحويلها كيانات اثنية وقبلية ومذهبية متناحرة، وذلك باستثارة الأقليات ودعمها سياسياً وعسكرياً لتبقى في حال اشتباك دائم مع السلطات المركزية، وتعميم الحروب الأهلية داخل بلدانها على امتداد القارة العربية.
ثانياً: ضمان الهيمنة الاميركية على القارة العربية بتدويم الاحتلال «الإسرائيلي» لفلسطين، وبإقامة سلسلة من القواعد العسكرية في دولٍ عربية ذات مواقع استراتيجية.
ثالثاً: نزع النفط والغاز من ملكية القطاع العام في البلدان العربية المنتجة لهما، وذلك بخصخصتهما لتمكين شركات النفط والغاز الأميركية والمتعددة الجنسية من السيطرة عليهما، وبالتالي تدوير عائداتهما لتصبّ في الأسواق المالية الاميركية والاوروبية.
لمواجهة هذه المخططات والتحديات يقتضي بناء اوسع جبهات المقاومة الميدانية الوطنية والإقليمية لتقوم بهذه المهمة، وتوسيع دوائر الاشتباك مع العدو الصهيوني في الساحات المتاحة كلها.
الى ذلك، وازاء تزايد انتهاكات حقوق الإنسان والحريات بسبب ما تمارسه الحكومات المتسلّطة من خداع ورياء وإهدار للموارد العامة، وما تمارسه تنظيمات «الإرهاب الجهادي» من اعتداءات ومجازر ومذابح وتهجير للسكان داخل الأقطار والى خارجها، بات من الضروري اجتراح مقاربة جديدة للمقاومة المدنية بكل أشكالها تتجاوز الأطر المحلية الى مستويات وصيغٍ عالمية أكثر شمولاً وفاعلية، وتتضمّن المبادرات الآتية:
ـ إنشاء هيئة أهلية عالمية ذات وقفية خاصة لتمويلها وإدامتها، بمبادرة من المنظمة العربية لحقوق الإنسان واتحاد المحامين العرب بالتعاون مع منظمة العفو الدولية او تحت رعايتها باسم «المؤتمر الأهلي العالمي لحقوق الإنسان» يكون بمثابة برلمان عالمي دائم او «دافوس» حقوقي إنساني منافس ومحفّز لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والخاضع لتأثير الحكومات. ينعقد في دورة سنوية واحدة على الأقل واستثنائية عندما تدعو الحاجة، وتتقدم منه منظمة العفو الدولية بتقريرها السنوي ليكون ورقة عمل لممثلي منظمات حقوق انسان والجمعيات الإنسانية غير الحكومية في شتى بلدان العالم المشاركين في مناقشته، كما تعرض فيه تقارير أخرى متخصصة، وتقوم الامانة العامة للمؤتمر الأهلي العالمي بمتابعة تنفيذ التوصيات الصادرة عنه.
ـ قيام «المؤتمر الأهلي العالمي لحقوق الإنسان» بإقرار مفهوم متفق عليه للإرهاب مضمونه «استعمال العنف المفرط من قبل حكومات وتنظيمات وأفراد لتحقيق أغراض سياسية»، والقيام تالياً بوضع تقرير سنوي يتضمن الوقائع والأدلة على قيام قادة سياسيين وعسكريين بارتكاب أو المشاركة في اقتراف جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وإحالته على كلٍّ من الأمين العام للأمم المتحدة والمدّعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية بغية اتخاذه منطلقاً للتحقيق فيها تمهيداً لملاحقة مَن يثبت ارتكابه جريمة جنائية تدخل في اختصاصها.
ـ قيام المؤتمر الأهلي العالمي لحقوق الإنسان بالتعاون مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان واتحاد المحامين العرب والمؤتمر العربي العام بأذرعته الثلاثة بإحياء نموذج محكمة برتراند راسل العالمية وذلك بإنشاء «محكمة الضمير الأهلية العالمية» لمحاكمة القادة السياسيين والعسكريين المتهمين بارتكاب جنايات موصوفة امتنعت المحكمة الجنائية الدولية عن محاكمتهم لأي سبب كان. وكذلك تنظيم ندوات علمية لإعادة النظر بمفاهيم القانون الدولي الإنساني وعقوباته التي كانت وُضعت غداة الحرب العالمية الثانية وما عادت تفي بمتطلبات مواجهة تحديات الإرهاب والعنف الأعمى.
ـ تشديد حملة مقاطعة «إسرائيل» أكاديمياً واقتصادياً من خلال أ التواصل مع إدارات الجامعات في شتى بلدان العالم و ب تنفيذ المهام الموكولة لمكتب مقاطعة «إسرائيل» التابع لجامعة الدول العربية والعاطل من العمل، وذلك بتنظيم حملات مقاطعة اهلية في جميع الدول العربية، ووضع تقرير سنوي بالشركات «الإسرائيلية» ومنتوجاتها كما الشركات المتعاونة معها، ولاسيما تلك التي تعمل في/ او تتعاطى مع المستعمرات المستوطنات «الإسرائيلية» في فلسطين المحتلة.
ـ وضع «سجل شرف سنوي» بأسماء نشطاء وشهداء قضوا دفاعاً عن الأرض في فلسطين وسواها وحقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. وكذلك وضع «سجل قرَفَ»، إن صحّ التعبير، بأسماء مسؤولين في حكومات ومديرين في مؤسسات عامة وهيئات وشركات خاصة انتهكوا بفظاظة حقوق الإنسان ومقاطعة «إسرائيل» وصدرت بحقهم أحكام قضائية من المحاكم الوطنية او من محكمة الضمير الاهلية العالمية.
إنّ حجر الزاوية في بناء المقاومة المدنية ولاسيما المقاومة القانونية، هو الإنسان، فرداً وجماعة. فقد ردّدنا كثيراً أن العالم أضحى، بفضل ثورة الاتصالات والمواصلات ونقل المعلومات، قرية كونية. هذه الحقيقة، بل هذه النعمة، أضحت في متناول الجميع، ولو بدرجات متفاوتة. معنى ذلك انّ الجميع، مالكين او غير مالكين، مقيمين او مهجرين، قادرون مادياً او غير قادرين، باستطاعتهم الإفادة من تسهيلات «القرية الكونية» ووسائطها وأدواتها وفرصها، وبمقدورهم تالياً فرض حضورهم على العالم والمشاركة في مجرياته.
كان ديكارت يقول: «أنا أفكّر، إذاً أنا موجود».
إنّ التفكير في عصرنا ما عاد وحده كافياً لإثبات الوجود وصون الحرية، بما هي قيمة معادلة للحياة نفسها. ثمة حاجة وجودية ليكون التفكير مقروناً بالتدبير والتعبير، بل بالمقاومة أيضاً. المقاومة بما هي إشهار وممارسة حيّة للوجود والحضور والصمود.
أنا أقاوم، اذاً أنا موجود.
(البناء)