من حرب حلب إلى حرب جيزان نضجت تركيا والسعودية على الطريق
ناصر قنديل
– الحروب هي السياسة بوسائل أخرى، كما يقول أبو الحرب كلاوزفتز، والحرب التي شهدتها سورية تأكيد للمقولة، فلا حرب للحرب، وحروب الإفناء صارت شيئاً من الماضي، ولا أحد يذهب إلى حرب شعارها «عليّ وعلى أعدائي»، أو الانتقام أولى من البقاء. فعندما تصل الحروب إلى صياغة معادلات تقول باستحالة تحقيق الأهداف، يبدأ البحث عن تقليص سقف الطموحات، والاندفاع عن بناء منصات التفاوض وجسور الدبلوماسية، ويصير العناد سمة حصرية بالأغبياء الذين يتأخرون عن قطاف اللحظة الأنسب لحجز مقعد في التسويات. وعندما يتأخر البعض عن ركوب قاطرة التسويات، ينخفضون من البحث عن سقف مكاسب أدنى إلى البحث عن قعر خسائر أقلّ. وعندما يجلس الجميع في مقاعدهم، ويبقى راكب متخلّف عن القطار يقلع القطار بدونه، أو عليه أن يشتري بطاقة من السوق السوداء بسعر مرتفع، وخيالي أحياناً. وفي كلّ الأحوال تؤول إليه فواتير خسائر حلفائه الذين سبقوه إلى حجز مقاعدهم.
– لم ينتبه حلفاء واشنطن وخصوصاً تركيا والسعودية و«إسرائيل»، عندما عادت الأساطيل الأميركية من البحر المتوسط دون خوض حرب على سورية، أنه يستحيل أن تعود لمثل هذه الحرب، وأنّ حرباً قالوا إنهم لن يخوضوها ولا يجرأون على خوضها بدون واشنطن، قد انتهت بمعناها الاستراتيجي في تلك اللحظة. كما لم ينتبهوا عندما استتبعت واشنطن قرار سحب أساطيلها بالدخول الفوري في استئناف مفاوضات الملف النووي الإيراني، قرّرت تتويج التفاهم على الحلّ السياسي للسلاح الكيميائي في سورية بالتفاهم على الملف النووي الإيراني، منهية فك الاشتباك المباشر بينها وبين أزمات المنطقة لتعود قوة برانية وخارجية في هذه الأزمات، تملك قدرة التفرّج عن بعد والتدخل حيث يجب وعندما يجب، في السياسة عندما تنضج منصات التسويات، وإلا فلتستمرّ حروب الاستنزاف فهي ليست من جيبها ولا على حسابها، حتى يقتنع خصومها وحلفاؤها أنّ طريق التسويات صار حتمياً ولا مفرّ منه، ولأنها تعلم أنّ المشكلة ليست مع خصومها الذين يعرفون ما يريدون، ويرسمون مسارات التفاوض والتسويات من موسكو إلى طهران فدمشق، تركت حلفاءها يقلّعون أشواكهم بأيديهم، حتى يقتنع كلّ منهم في زمانه السياسي الأنسب بالالتحاق وعلى طريقته. وحتى ذلك الحين تقطف واشنطن ثمار المكاسب التكتيكية التي يحققونها وتتركهم يدفعون وحدهم ثمن الخسائر، وأحد منهم لم يسأل نفسه، أنه لو كان لدى واشنطن أيّ أمل بتعديل التوازنات الحاكمة للحرب لصالحها، مباشرة او بواسطة حلفائها، لما كانت وقعت التفاهم على الملف النووي الإيراني وانتظرت تغيّر الموازين.
– عندما انتهت السنة الأولى للتفاوض مع إيران وجرى التمديد لسبعة أشهر، تنتهي في حزيران 2015، قال جيفري فيلتمان إنّ واشنطن تريد الاتفاق وتحتاجه أكثر من إيران، لكنها تمنح حلفاءها الوقت الكافي للتموضع وإمساك الأوراق التي تضمن لهم مواقع تفاوضية أفضل في الخريطة الإقليمية الجديدة، فذهبت «إسرائيل» إلى عملية القنيطرة في الجولان لترسم بدماء الشهيد جهاد مغنية ورفاقه خطاً أحمر للمقاومة، مضمون لن تسري على الجولان معادلات الردع التي تحكم جنوب لبنان وعندما ردّت المقاومة بعملية مزارع شبعا النوعية، تراجعت «إسرائيل»، ورسمت خطوط تموضع لها تنفتح على كلّ احتمالات نهاية الحرب السورية، تتدرّج من خطة وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر، بترتيب حزام أمني للجولان من مجموعات مسلحة نواتها جبهة النصرة تحت شعار الحرب على داعش، ومحاولة تفتيت الجغرافيا الحدودية لسورية، وتنتهي بالمبادرة الفرنسية لمفاوضات تحت شعار المبادرة العربية للسلام، تنتج دولة في غزة تتقاسمها سلطة رام الله وحكومة حركة حماس ويكفلها المصريون والسعوديون والأتراك خصوصاً. وتمرّ خطوط التموضع «الإسرائيلي» الجديدة بالانتقال في تطبيع العلاقات مع السعودية إلى العلن ونصب رؤوس جسور تطبيع اقتصادي ينشئ لها دوراً في سوق النفط وتجارة الخليج، كانت سعودة جزيرتي تيران وصنافير المصرية إحدى خطواتها التمهيدية.
– بعد «إسرائيل» خطت تركيا نحو إشعال الشمال السوري والسيطرة على إدلب وجسر الشغور، وإحكام الطوق حول حلب، وصار مستقبل حرب الشمال السوري يقرّر مستقبل الحرب في سورية، ومستقبل الدور التركي فيها، وعندما جاء التموضع الروسي العسكري، رفع الأتراك سقوفهم نحو المواجهة وكان إسقاط الطائرة الروسية، والإعلان عن العزم على تدخل مباشر يقيم منطقة تمتدّ من الساحل السوري حتى جرابلس يجاور منطقة سيطرة جبهة النصرة ويتعاون معها ويحميها وتحميه. وانتهى الأمر بتركيا بفشل ذريع لمشروعها، فبعد كرّ وفرّ ومراهنات وانتظارات، تبدو الحرب في الشمال بوجهة واحدة، هي وجهة العزم الروسي الإيراني السوري بالتعاون والتكامل مع المقاومة على حسم عسكري يسقط النصرة ويصل إلى إقفال الحدود التركية. فجاءت الاستدارة المحسوبة والمتدرّجة لتركيا تشبه توقيع واشنطن على التفاهم على الملف النووي، فكما كانت تدرك واشنطن أنها بهذا التوقيع ترتضي حلاً في سورية لا يسبّب مواجهة مع إيران، وإلا لخاضت هذه المواجهة تحت العنوان الأهمّ وهو الملف النووي، ولما ارتضت تشريعه ولا تمكين إيران من نيل مكاسب مالية واقتصادية وسياسية ومعنوية كبيرة جراء التفاهم. وهكذا تدرك تركيا أنها بالاستدارة نحو موسكو ترتضي حلاً في سورية لا يرتّب مواجهة مع موسكو، وإلا لكانت خاضت المواجهة تحت عنوان الكبرياء القومي وما ارتضت مذلة الاعتذار والتراجع.
– حرب حلب تتقدّم وتقول كلّ يوم: إنّ الانتصارات الإعلامية، حتى عندما تستند إلى وقائع نسبية وتنفخ بها أضعاف حجمها، يصيبها ما يصيب البالونات التي سرعان ما تعود إلى حجمها بمجرد الاصطدام بجسم حادّ، والواضح أنّ مسار حرب حلب هو الذي تعرفه تركيا والذي كان وراء استدارتها، ولو تدرّجت وتمهّلت، فهناك تلميذ الصف الكسول لا يزال خارجاً، ولا بدّ لتنضج التسوية من صعوده إلى القطار. والمعلوم أنّ السعودي الذي يمثل آخر المعاندين خارج القطار، ينتظر نتائج حلب التي ورث حربها عن التركي، لكنه ينتظر أكثر حرب اليمن التي أشعلها من ضمن سلة محاولات حلفاء واشنطن إمساك أوراق قوة، تحوّلت إلى جمر حارق سعى «الإسرائيلي» للتخفّف من نصيبه منه، ويسعى التركي اليوم، لتسقط فواتير الخسائر كلها، على الكتف السعودي، الذي سيسدّد هذه الفواتير من حضوره ووزنه، بالأصالة عن دوره في الحرب، وبالنيابة عن حلفاء واشنطن، باعتباره آخر المكابرين.
– المكابرة السعودية تواجه اختبارها في اليمن، حيث يخوض اليمنيون معارك ضارية في تخوم المحافظات اليمنية المحتلة من السعودية جيزان ونجران وعسير، ويدفع الجيش السعودي يومياً العديد من القتلى من ضباطه وجنوده. وقد بلغ ضغط الخسائر حدّ مساعٍ قام بها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، لتوسيط روسيا مع الحوثيين، لوقف الغارات على صنعاء مقابل توقفهم عن قصف المناطق الحدودية والتوغل فيها، بعدما اتخذ الروس موقفاً حازماً في مجلس الأمن منع تمرير قرار أو بيان يدين الحوثيين بطلب سعودي، وتبدو الآن حرب حلب وحرب جيزان كفتي ميزان إنضاج التسويات، وصبّ الماء البارد على الرؤوس الحامية.
(البناء)