مصالحة بطرسبورغ
غالب قنديل
الحصيلة التي انتهت إليها اجتماعات الرئيسين التركي والروسي في بطرسبورغ تثير نقاشات كثيرة وتكهنات أكثر لا تخلو من مبالغة فبعض التوقعات والتقديرات تعامل الحدث وكأن العلاقات بين الدولتين تأسست الآن وانطلقت للتو ومروجو هذا الانطباع يتجاهلون ذاكرة الشراكة الاقتصادية والتجارية الواسعة طوال السنوات الماضية التي قادت خلالها تركيا بزعامة أردوغان أخطر فصول الحرب على سورية بقيادة الولايات المتحدة ولم تعتبر روسيا ذلك كافيا لفك التشابكات التجارية والشراكات الاقتصادية مع تركيا رغم موقفها الداعم للدولة الوطنية السورية منذ البداية.
ما تزال تركيا قاعدة العدوان على سورية إلى جانب الأردن وما تزال تلك الآلة الدموية بتشعباتها العسكرية والأمنية والمالية تعمل من تركيا على وجه الخصوص في خدمة داعش وسائر منظمات التكفير الأخرى وما يزال في تركيا مقر غرف العمليات التي يشرف عليها جنرالات اميركيون واطلسيون لقيادة العصابات الإرهابية وحيث وفرت انقرة مقرات ومعسكرات لتجميع الإرهابيين من جميع انحاء العالم يتم تدريبهم بإشراف المخابرات التركية لينضموا إلى مئات الجماعات الإرهابية متعددة الجنسيات في سورية لاسيما في الشمال السوري وهو اكدته وقائع كثيرة في معركة حلب وحيث تتولى تركيا القيادة العسكرية والأمنية مباشرة للعديد من المعارك والعمليات الجاري تنفيذها.
تدير تركيا شبكات لوجستية ضخمة لنقل شحنات السلاح التي مولتها السعودية وقطر وبالتنسيق مع حكومات الناتو بقيادة اميركية مباشرة وكل ذلك لم يؤد إلى قطيعة روسية تركية فلم تحصل الأزمة في علاقات البلدين سوى بعد إسقاط الطائرة الروسية ورغم المصالحة بين بوتين وأردوغان ما زال كل شيء على حاله ولم يكن تفكيك منصات العدوان على سورية شرطا روسيا مسبقا او لاحقا لتلك الخطوة التي تستأثر باهتمام عالمي وإقليمي واسع.
نتائج القمة المعلنة يمكن تلخيصها بما يلي :
1- إحياء العلاقات الاقتصادية والتجارية ورفع تدريجي للعقوبات الروسية التي اتخذت بعد إسقاط الطائرة والتي اتاحت عمليا لي ذراع أردوغان واضطرته قبل الانقلاب الفاشل لتوجيه رسالة الاعتذار إلى الرئيس الروسي وتذرعه في الرسالة بمسؤولية رئيس حكومته السابق داود اوغلو عن إصدار الأمر وقد أقر أوغلو فعلا بذلك في تصريح علني ليسهل رحلة رئيسه إلى روسيا.
2- تنظيم نقاشات ثنائية حول الاختلاف الجوهري بشان سورية وقد تعمد أردوغان ان يصدر موقفا عدائيا ضد الرئيس بشار الأسد بعد القمة مباشرة ليقول للقوى الإرهابية التي يدعمها ولحكومات العدوان الأخرى بمن فيها الولايات المتحدة انه منضبط بما اشتركوا جميعا في تدبيره ضد الدولة السورية وما تفاهموا عليه في استثمار العلاقات السياسية مع روسيا وإيران للمساومة على مستقبل سورية السياسي.
3- تردد ان الحوار التركي الروسي قد يتناول طلبات محددة وملحة بالنسبة لموسكو تتعلق بآلاف الإرهابيين الذين يحملون جنسيات روسية ولديهم أوكار تدريب وتنظيم في تركيا ويعمل الآلاف منهم داخل سورية في صفوف داعش والقاعدة وزمر أخوانية اخرى وهذا مصدر تهديد كبير للأمن القومي الروسي وهو ما يفسر إشراك مسؤولين عسكريين وأمنيين في الفريق المشترك الذي سيناقش الوضع السوري ولم يتسرب مثلا ان إغلاق الحدود التركية في وجه قوافل السلاح وإرساليات الأموال والإرهابيين الوافدين إلى سورية هو شرط او مطلب روسي يعلق عليه تطبيع العلاقات الثنائية بل هو على الأرجح موضوع على جدول أعمال الفريق المشترك من الناحية الروسية على الأقل.
الحاجة المتبادلة لتطبيع العلاقات مردها إلى حجم المصالح المشتركة الذي يقدرها بعض الخبراء بحوالي ستين مليار دولار سنويا وتحرص روسيا على إحيائها في ظل العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية التي تعاني من نتائجها حتى اليوم بينما تعتبر بعد الاعتذار التركي أن أردوغان تم ردعه بنتيجة العقوبات التي فرضتها موسكو بعد أزمة الطائرة وسيكون مضطرا لتحاشي الصدام مرة أخرى مع القوات الروسية العاملة في سورية ويمكن لبوتين القول انه فرض احترام روسيا وقدم امثولة لكل من يحاول التطاول على الكرامة الروسية والعنفوان الروسي .
تراجع اردوغان امام القوة الروسية السياسية والاقتصادية المؤثرة لا يعني انسحابه من حلف العدوان على سورية فهو يرئس دولة أطلسية ترتبط بمصالح ضخمة وجودية متشعبة وقديمة أمنية وعسكرية واقتصادية وسياسية يصعب انقلابه عليها حتى لو رغب شخصيا بذلك ( ؟! ) رغم نبرته العالية بشان شبهات التورط الأميركي والغربي المحتمل في الانقلاب الفاشل برزت الطريقة الاحتوائية التي تعامل بها واشنطن اتهامات انقرة وحملتها السياسية المتوقع ان تتراجع تدريجيا وصولا إلى عودة حرارة الولاء للغرب خلال الأسابيع والأشهر القادمة فاضطرارالرئيس التركي لمراعاة هذا العامل لا يقل أهمية عن جبرية المصالحة مع روسيا.