بقلم ناصر قنديل

بوتين وأردوغان وحلب: ثلاثية الحرب والسلم في سورية

ناصر قنديل

– تزامنت الأحداث العاصفة في حرب حلب مع موعد زيارة الرئيس التركي رجب أردوغان إلى بطرسبورغ للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد قطيعة وعلاقة وصلت إلى حافة الحرب بين روسيا وتركيا، على خلفية التموضع المتقابل في جبهتين متعاكستين في حرب وجودية لكلّ منهما. ففي سورية الأمن القومي لروسيا، كما قال الرئيس بوتين ومستقبل النظام العالمي الجديد، وفي سورية مستقبل حلم السلطنة العثمانية يحيا أو يموت، وسورية لها بوابة واحدة على الأمن الروسي والحلم العثماني هي حلب، فهل التزامن محض صدفة، أم جزء من خطة، أم الحرب في حلب والزيارة إشارتان على حقيقة واحدة، هي تدافع الأحداث المتسارعة مع نهاية ربع الساعة الأخير من الحرب؟

– سيناريو أول متداول وشائع في الربط بين الزيارة والحرب، يقول إنّ روسيا أرادت عبر حسم مصير الكاستيلو بتقديم الدعم للجيش السوري والحلفاء أن يصل أردوغان إليها وقد هزمت الجماعات التي راهن ويراهن عليها في الحرب السورية، وانّ اردوغان الذي صالح روسيا ظاهراً، أبطن لها رداً صاعقاً بما جرى في جنوب غرب حلب ليذهب من موقع القوي القادر على المفاوضة، والقول نستطيع معاً صناعة الحلّ فتعالوا إلى منطقة التنازلات المتبادلة. ومشكلة هذا السيناريو الجاذب أنه يفتقد لتفسير حقيقتين، الأولى أنّ ثمة سياقاً لولادة المصالحة التركية الروسية يضعها في توازن قوى عرض وطلب، وصولاً إلى حدّ التنازل المعنوي الكاسر للمهابة، واضح أنه مختلّ لصالح روسيا في شروط المصالحة، التي لم تتمّ وفقاً لقراءة حاجة متبادلة لترميم العلاقات والتلاقي على كيفية صناعة تسوية تنهي فرضية استنزاف متبادل ضاقا به ذرعاً فتلاقيا، فالذي حدث هو أنّ تركيا راهنت وناورت وماطلت، حتى نفدت أوراقها فرضخت لشروط مذلة وضعتها موسكو، ومن ضمنها ما كرّره المسؤولون الروس عن أهمية خروج تركيا من المداخلة العسكرية في الحرب السورية، إلى جانب جماعات مسلحة تتموضع مع التنظيمات الإرهابية، وأن توقف العبث عبر الحدود مع تنظيم داعش وجبهة النصرة، وبقاء تركيا حيث كانت يعني أن لا مبرّر من وجهة النظر الروسية للمصالحة، كما قالت مواقف موسكو، وثانياً إذا قبلنا ربط زيارة أردوغان لروسيا بما جرى في هجوم جبهة النصرة التي ظهرت علناً في واجهة معارك حلب كقوة قيادية لاقتحام جنوب غرب حلب، بصفته رسالة تركية، فهذا يعني ربط ما رافقها وسبقها وتلاها، ومن ضمنه إسقاط المروحية الروسية، وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً: إذا كانت موسكو قد اختارت القطيعة العدائية إثر سقوط طائرتها ومقتل طيارها على يد طيار تركي، وأصرّت على اعتذار علني لتعيد البحث بتطبيع العلاقات، فهل يمكن أن تسامح موسكو وتتهاون بإسقاط طوافتها ومقتل طياريها الخمسة، وتستقبل أردوغان بالورود؟ ثم ماذا عن سقوط الطوافة بصاروخ حراري من صناعة أميركية، تقول «نيوروك تايمز» إنه سلّم من مستودعات السعودية بموافقة أميركية، ويرد اسم محمد بن سلمان وقائد المنطقة الوسطى اللذان وردا في التقارير التركية المسرّبة حول التورّط السعودي الأميركي في الانقلاب الفاشل في تركيا؟ وماذا عن تغيير اسم وتموضع النصرة ظاهرياً طلباً لتعاون مع واشنطن، بعد رفض للطلب ذاته من تركيا، ومع من في واشنطن وما صلتهم وفقاً لأنقرة بالانقلاب؟ وهذه الأسئلة مجرد أسئلة، لكن الجواب الأبلغ هو في ما تطرحه عن تشوّش وارتباك في العلاقات التركية الأميركية على خلفية الانقلاب لا يستقيم وجودهما، مع الحديث عن خطة حرب وتفاوض تقودها تركيا منفردة في هذه اللحظة الحساسة والصعبة في الحرب السورية.

– سيناريو ثانٍ في التداول يتحدث عن ازدواجية تركية في إدارة العلاقة مع موسكو، فيقول إنّ أردوغان وصل إلى اليقين بلا جدوى مواصلة ربط مصير علاقته بروسيا بما سيحدث في الحرب في سورية، لأنّ سقف ما ستقدمه الحرب هو وضع تفاوضي. والتفاوض يستدعي التواصل، وأنّ الحلم الكبير قد سقط، وأنّ الأميركي يشتغل بهذه الطريقة، يفاوض موسكو ويمدّ الجسور للقوى المناوئة لها ويطمئنها، ويفتح لها أبواب تعزيز قدراتها ويراهن على ما تنتجه في الميدان، فإنْ نجحت يبني على نجاحاتها تعديلاً للتفاهمات أو تجميداً لها، وإنْ فشلت يسير بالتفاهمات على حسابها، وأنّ تركيا الأجدر بلعب هذا الدور، ويقول هذا السيناريو إنّ أردوغان وقد زوّد جبهة النصرة ومَن معها من الجماعات المسلحة بما يلزم لخوض الحرب، تركها تخوض حربها وتريه ما تستطيع، بينما ذهب هو رغم الكلفة العالية معنوياً إلى مراضاة موسكو وبناء منصة تفاوض حول سورية، من موقع التفاهم على إخراج من يمكن إخراجه من الحرب، إلى ضفة تسوية تنتج سقوفها وقواها من الميدان، يتخذ فيها دور الوسيط المؤثر، متراجعاً عن دور المشغل والراعي، ووفقاً لهذا السيناريو قامت موسكو والحلفاء بضربة موجعة لهذه الجماعات لتقدّم لأردوغان دعوة عملية للسير سريعاً بالانتقال من ضفة إلى ضفة، بينما وجهت له الجماعات المسلحة ومن وراءها، خصوصاً في الرياض وواشنطن رسالة معاكسة للتمهّل والتروّي، قائلة بالوقائع لا يزال ممكناً فعل الكثير، بصورة تشبه ما أرادته السعودية من حرب اليمن في مخاطبة الأميركي الذي كان قد وقع الإطار للتفاهم على الملف النووي مع إيران، كتقديم أوراق اعتماد للدعوة للتصلب التفاوضي. ولأنّ الضخّ الإعلامي لا يصنع السياسة التركية جاءت النصرة ومَن معها ومَن وراءها لتقول بإعلان الهجوم الشامل، إنه رغم فشل فكّ الحصار، وفشل فرض الحصار على غرب حلب، فهذه ليست إلا البداية، والوجبة الثانية تأتي، ولذلك بدأت روسيا وسورية والحلفاء ضربات قاسية واستعدادات نوعية لهجوم معاكس، يقول لأردوغان عشية زيارة موسكو، لقد اتخذت الخيار الصائب بالتموضع هنا، فالرهان على ما ستفعله هذه الجماعات خاسر، وهي لن تستطيع تغيير المعادلات.

– إذا كان يمكن قبول هذا التقدير بقدر من الواقعية، فإنّ القراءة الأعمق، هي في الأجوبة الاستراتيجية التي يحتاجها أردوغان في موسكو، وهي أبعد مدى من جغرافية متحركة للمعارك. وهذه الأجوبة هي على أسئلة عنوانها، هل أولوية تركيا التي كانت ضمّ سورية لدائرة نفوذها الإقليمي بتموضعها في ضفة إسقاط سورية ورئيسها وقيادة الحرب فيها وعليها، لا تزال قائمة وتعدّلت شروطها فقط بقدر من الواقعية، أم أنّ تركيا قرّرت اعتماد أولوية جديدة هي مقايضة تورّطها في الحرب بضمان عدم قيام كيان كردي مناوئ على حدودها، وكما قال وزير خارجيتها قبل الانقلاب عن أولوية وحدة سورية وتلاقي تركيا وروسيا وإيران حول هذه الأولوية، وما تعنيه من خروج من الهدف المحوري من التورّط في الحرب. وهنا يصير ذا معنى التراجع الكردي على لسان زعيم أكراد سوري صالح مسلّم علناً عن التطلع للانفصال عن سورية، وتصوير حلم كيان كردي على الحدود بالمشروع غير الواقعي. والأجوبة من نوع مماثل تتصل بالاستراتيجيات، مثل: هل وصلت تركيا إلى اليقين بأنها تسعى وراء سراب أوروبي غربي، وتقدم أوراق اعتمادها، حيث لا مكان لها، وأنّ التوجه شرقاً هو مستقبلها، ولو بقيت شكلاً عضواً في الأطلسي الذي لم ينجدها ويقف معها يوم تورّطت في التصادم مع روسيا، ولم يعوّضها خسائر اقتصادها أيام القطيعة، ولم يتطلع صوب مواسمها السياحية الراكدة، ولا صوب بضائعها الزراعية الكاسدة، بل ساومها على النازحين السوريين بالعدّ والنقد على الرأس، كما يُقال؟ فمصالح تركيا وموقعها في مكان آخر، وكذلك في مسألة الرهان على تنظيمات متداخلة مع تنظيم القاعدة، سواء داعش أو النصرة، وقد ثبت أنها تغلغلت في تركيا وقادرة على الضرب والمزيد ساعة تشاء، ولا إسلامية الحزب الحاكم شكلت حائلاً، ولا الخدمات التي قدّمها النظام التركي شكلت ديْناً وعرفاناً بالجميل، وأنّ الأمن التركي لن يُصان وعبره السياحة وسائر مرافق الاقتصاد ما لم يتمّ حسم الموقف من مصير هذه التشكيلات التي تتخذ من سورية غطاء حرب المعارضة الهشة، التي تتخذها تركيا عنواناً لها، وفي هذا يصير ذا معنى العودة لكلام أردوغان عن عرض الجنسية على الراغبين من السوريين إعلاناً عن نية الخروج من الحرب وفقدان الأمل بربحها.

– في بطرسبورغ سيسمع أردوغان أصوات القاذفات الاستراتيجية الروسية تتجه نحو سورية، تقصف مواقع النصرة، كخلفية لكلام بوتين عن عزمه استئصال هذا التنظيم الجرثومة، ودعوته لصديقه أردوغان إلى الوقوف معه في هذه الحرب، وإقفال حدوده مع سورية بإحكام، واعداً بضمان مقعد مريح لأنقرة في تسويات المنطقة وفي مقدمتها سورية، على قاعدة الخروج من أوهام السلطنة والتوسّع والخروج من اللعبة المزدوجة، مع إرهاب جيد وضد إرهاب سيّئ، أو إرهاب معتدل وإرهاب متطرف، وسيسأل بوتين ضيفه بصراحة، عما إذا كان قد حسم أمره ووثق من خطأ الرهان على لعبة الغرب مع تركيا وفيها، ويريد أن يختطّ طريقاً مستقلاً في علاقاته بروسيا، وبالتالي في تسويات المنطقة، والذي يمكن قوله إنّ كلّ هذه الأسئلة في بال أردوغان، وقد نقلها الموفدون، وسيجيب عليها بالإيجاب طالباً ثمناً موازياً، وما يجري وسيجري في حلب، مكانه في تحديد الأثمان وليس رسم الخيارات، فما كتب قد كتب، وإلا لما كانت الزيارة لتتمّ، فدم الطيارين الخمسة يقضّ مضجع بوتين، ومن قطع العلاقات مع تركيا وعاقبها لقاء مقتل طيار روسي سيقول لأردوغان إنه مستعدّ لحرب عالمية إنْ اكتشف تورّط دول وحكومات في مقتل طياريه، وإنه يتطلّع لصديقه أردوغان ليكون في صفه إذا ثبت تورّط محمد بن سلمان وهيلاري كلينتون وديفيد بتريوس وآشتون كارتر، وإنه سيكون في صف أردوغان إذا ثبت تورّط هؤلاء أنفسهم في محاولة الانقلاب عليه.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى