بقلم ناصر قنديل

هل يمكن تحويل معارك حلب إلى كرّ وفرّ؟

ناصر قنديل

– يطلق محللون وكتاب محسوبون على السعودية ومثلهم قادة جماعات الرياض التي تحمل يافطة المعارضة السورية من سياسيين وعسكريين مجموعة من المقولات، تعليقاً على ما يجري في مدينة حلب وعبرها في جبهات شمال سورية، فيقولون إنها ليست المرة الأولى التي تخسر فيها المعارضة مناطق ثم تسترجعها، ويقولون إنّ الحرب سجال وكرّ وفرّ، وإنّ الحرب السورية شهدت مراحل تمكن الجيش السوري وحلفاؤه من تحقيق إنجازات كبيرة لم تلبث أن تمكنت المعارضة بتشكيلاتها التي تضمّ جيش الفتح أو جبهة النصرة التي صارت اليوم جبهة فتح الشام من تغيير اتجاهها واسترداد زمام المبادرة. ويقولون إنّ هجوماً معاكساً قد بدأ أو سيبدأ، ويقولون إنّ الحلّ العسكري بتبادل السيطرة على مواقع عسكرية ثبت أنه لا يغيّر شيئاً في مسار الحرب، ويقولون إنّ سقف ما سيحدث لو بقيت الأمور على ما هي عليه، لن يكون استرداد الجيش السوري وحلفائه أحياء حلب التي يسيطر عليها المسلحون، فهناك آلاف المسلحين الذين لا يسهل اقتحام مواقعهم بلا عشرات الآلاف من المهاجمين وتكبّد خسائر هائلة، والذي سيبقى هو الحصار في أحسن الأحوال، والحصار لم يغيّر شيئاً في تاريخ الحرب، ويقولون ها هي داريا تحت الحصار منذ سنوات ولم تسقط ولم يتغيّر شيء بحصارها.

– الأكيد أنّ الحديث عن الحرب سجال وكرّ وفرّ صحيح كمبدأ، لكن إسقاطه على كلّ مراحل الحرب خدعة بصرية. فالسجال والكرّ والفرّ، يعنيان توازناً سلبياً لموازين القوى ناتجاً عن بلوغ الفريقين المتقابلين إلى ذروة استثمار مصادر القوة التي يستندان إليها، وبلوغ هذه الذروة حداً من التوازن الذي لا يستطيع أحد الفريقين كسره. وهذا التوصيف ينطبق بدقة على الرؤية الأميركية لإدارة الحرب في سورية في الفترة التي تبيّن فيها من جهة، عجز الجماعات المسلحة المدعومة من واشنطن وحلفائها، بما فيها مَن تمّ حشدهم من خارج سورية من جماعات تدين بالولاء لتنظيم «القاعدة»، عن إحداث اختراق بحجم يفتح الطريق للسيطرة على إحدى العاصمتين الكبيرتين، دمشق وحلب، وظهور قدرة الدولة السورية وجيشها كلما تمكّنت الجماعات المسلحة من إحداث اختراق نوعي، من استعادة ما خسرته ولو بعد حين. ومن جهة مقابلة انصراف الجماعات التابعة لـ «القاعدة» عن العمل لتخديم الرؤية الأميركية وطلبات المشغّلين الإقليميين لحساب مشاريع خاصة، تبدأ بالانفصال عن رايات المعارضة السورية التي ارتضتها مؤقتاً، وتمرّ بإقامة إمارات تدار بطريقة عقائدية يحكمها فكر التكفير تُحرج الخطاب الأميركي بصدد الأزمة والحرب في سورية، وصولاً لتحويل مناطق سيطرتها إلى قواعد ارتكاز وتدريب وتنظيم لجماعات مهمّتها الضرب في دول الغرب، وانتهاء بالتحوّل إلى عبء وخطر يصعب التعايش معه والتغطية عليه، والتحدث عن بقائه تحت السيطرة، أو التنظير لنجاح استراتيجية الاحتواء المزدوج في التعامل معه.

– التوازن السلبي الذي أنتج الكرّ والفرّ إذن هو حاصل استثمار الفريق الذي تقوده واشنطن لكامل قدرته واحتياطاته، في مقابل لجوء الدولة السورية وحلفائها لخيار الصمود، وتلقي الضربات وامتصاصها، واللجوء إلى هجمات محسوبة وجراحية عندما يتسنى للجماعات المقابلة الاستيلاء على مناطق ذات حساسية جغرافية أو عسكرية أو معنوية، والواضح أنّ هذا التوازن السلبي قد كسر منذ توقيع التفاهم حول الملف النووي مع إيران، وما تلاه من تموضع روسي عسكري في الحرب السورية، استند إلى خروج واشنطن من خيارات التدخل العسكري، ودخولها جدياً مرحلة الانخراط التفاوضي وصناعة التفاهمات، وتقديم عينة عن الذي يستطيع صنعه التغيير الاستراتيجي في خطة الحرب، بدخول التقنية الروسية مباشرة مع عزم سياسي أكيد، ومعها القدرة التي حفظتها الدولة السورية لمرحلة بدء الهجوم، وقوات النخبة التي أعدّها حزب الله لهذه اللحظة ولم يزجّها في الحرب بعد، مع تمويل إيراني لاحتياجات كسر هذا التوازن وفرض معادلات جديدة. ولا يصلح ما حدث بعد الهدنة من عودة للكرّ والفرّ، للقول إنه مقياس حاكم للحرب السورية، لأنه تعبير عن لحظة عابرة في عدم فهم التعامل بالجدية اللازمة من واشنطن مع ما أرادته موسكو من الاكتفاء بتقديم عينة عما يمكن فعله، لتفتح لها عبر الهدنة والعملية السياسية باب التموضع في خيار التفاهمات، فكان التلاعب الأميركي لاختبار أراده الأتراك قبل حسم خيارهم بين الذهاب للتفاهمات مع موسكو أو المضيّ في الحروب، وهذا قبل الانقلاب وتداعياته التي زادت منسوب الاندفاع التركي نحو التفاهمات، فكان الرهان على عاصفة شمال تقوم بها جبهة النصرة بما قدّم لها وجهّزت به، بمال سعودي قطري وفير، وحدثت حالات محدودة لاختراقات في ريف حلب الجنوبي وريف اللاذقية الشمالي والغربي، قبل أن تتخذ موسكو وطهران ودمشق ومعهم حزب الله قرار الانتقال إلى المرحلة الثانية من عينة ثانية، تقدّمها حلب، عنوانها، أنّ اللعبة العسكرية انتهت، وأنّ زمن «النصرة» باسم قديم أو جديد قد انتهى، وأنّ الخيار الوحيد المتاح للقوى الدولية والإقليمية هو التموضع على خط تسويات، مضمونه ترك الرئاسة السورية للسوريين في صناديق الاقتراع، والتعاون المفتوح في الحرب على تنظيمي «داعش» و»النصرة» ومن يقف معهما.

– معركة حلب تقول أصلاً بالجغرافيا التي تستهدفها إنّ زمن الكرّ والفرّ قد انتهى، فالمواقع المستهدفة لم يسبق أن وقعت بقبضة الجيش والحلفاء، بدليل ما يقوله جماعة الرياض ومسلحيهم وقادة «النصرة»، أنّ المسألة صارت مسألة حياة أو موت، وأنهم لن يدعوا الحال على ما هو عليه، وأنّ السيطرة على الكاستيلو والليرمون تعني إمساك شرايين المدينة. أما عن الحصار وعدم القدرة على الاقتحام وكلفته، وقدرات صدّه فيحكيها حي بني زيد، الذي دخلته وحدات الجيش السوري وحزب الله في يوم واحد، وهو أشدّ الأحياء منعة وتسليحاً وتتولاه أشدّ الجماعات تطرفاً وتوحشاً، وفيه أكثر من ثلاثة آلاف مسلح، هربوا منه عندما بدأت طلائع الهجوم وسط كثافة النار وتقدّم الجنود والمقاتلين نحو مواقعهم، وما حدث في بني زيد سيحدث في صلاح الدين والشيخ مقصود وبستان القصر وسواها، عندما تحدّد الساعة الصفر، لأنّ الحرب قبل أيّ شيء حرب المعنويات، ولذلك يكفي كسر خط دفاع متين، ومن ثم الاندفاع وكسر خط ثانٍ وثالثٍ حتى تبدأ الانهيارات، ومَن يقرأ تاريخ حرب العلمين في الحرب العالمية الثانية يعرف معنى هذا الكلام، وما حدث في بني زيد قابل للتكرار حكماً في سواه من أحياء حلب.

– يبقى الأصل في كسر زمن التوازن السلبي في متغيّرات الضفة المقابلة للحرب، وهو ما يدركه الفريقان المتقابلان في الحرب السورية منذ البدايات، يتمثل في أنّ تركيا هي اللاعب الإقليمي الحاسم والمقرّر في توازنات الحرب في سورية على الضفة المناوئة للدولة وحلفائها، فبدون تركيا يفقد المشروع الهادف لإسقاط سورية الركيزة الجغرافية والسكانية والعسكرية، التي تملك مشروعاً إمبراطورياً لا يستقيم بلا سورية، وكانت تشكل الحلقة المركزية هي ومشروعها في الخريطة الأميركية لإدارة آسيا بعد الانسحاب من أفغانستان. ومعلوم أنّ تركيا خرجت من الحرب، وأنّ ما قالته الوجبة الأولى من معارك حلب يؤكد ذلك، وأنّ ما تشهده تركيا منذ ما قبل الانقلاب وزاد ما بعده يضع مكانها في خارطة التموضع الجديد على خط التسويات بدلاً من خنادق الحرب. وفي المقابل تبدو العبرة التي قدّمتها الهدنة التي رعتها روسيا لمنح الأميركيين فرصة التفاعل مع الخيارات السياسية بالنسبة لموسكو كافية أيضاً لعدم تكرار التجربة التي وفرت فرصة كرّ وفرّ مجدّداً ولو لوقت محدود، بينما تبدو الحركة الأميركية بعد خيبات الرهان على عاصفة الشمال وعلى تحقيق اختراقات تحتاجها في الرقة ومناطق سيطرة «داعش» بدون الانخراط بتفاهمات مع سورية وحلفائها عبر موسكو، أشدّ جدية والتزاماً بمقتضيات التفاهمات.

– بعد البدايات التي دشنتها معارك حلب تدخل الحرب السورية زمناً لا كرّ ولا فرّ فيه، والتقدّم محسوم لجهة واحدة هي الجيش السوري وحلفاؤه، ويخطئ من يبني حساباته على خلاف ذلك ويدفع الثمن وحده، لأنّ اللاعبين الكبار قد فهموا وعرفوا ويتعاملون على هذا الأساس.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى