الظواهري لواشنطن: أوصيكم بالجولاني خيراً رضوان مرتضى
كشف أمير «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني عن وجهه. خطوة أولى في مرحلة انتقالية نحو العلنية. فهو لن يكون بعد الآن قائداً لتنظيم سرّي مرتبط بـ«القاعدة الإرهابي»، بل سيقود فصيلاً جديداً قد يُصنّف معتدلاً ليحظى برضى المجتمع الدولي. هذا «المجتمع» نفسه المكوّن من دول تمثّل «الطاغوت»، بإجماع «الجهاديين»
شابٌ ثلاثيني وسيم بابتسامة خفيفة توسّط رجلين متجّهمي الوجه في خطاب إعلان «فك الارتباط» مع تنظيم «القاعدة». إنّه «أبو محمد الجولاني» نفسه، أمير «جبهة النصرة» وصاحب الصورة اليتيمة التي عمّمتها السلطات العراقية قبل سنوات، باعتباره كان سجيناً لديها.
ظهر الجولاني للمرة الأولى أمس، كاشفاً عن وجهه، ومرتدياً الطربوش والعمّة الشامية وبزة عسكرية. أما الرجلان، فعن يساره جلس عبد الرحيم عطون المشهور بـ«أبو عبدالله الشامي»، وعن يمينه من قيل إنّه أحمد مبروك الملقب بـ«أبو الفرج المصري». الأول عضو مجلس الشورى واللجنة الشرعية في «النصرة» (فرع تنظيم القاعدة السوري حتى ما قبل الساعة السابعة من مساء أمس)، فيما الثاني رفيق درب زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري وأحد قادة جماعة «الجهاد»، بحسب ما جرى تداوله وسط مجموعات تدور في هذا «الفلك». قصد الجولاني من خلال هذه الرمزية الدلالة على تماسك «المهاجرين والأنصار» وإظهار اتفاقهم على القرار المتّخذ، كون المصري يُمثّل «المهاجرين» والشامي يمثّل «الأنصار». وتأتي هذه الخطوة لرأب الصدع في صفوف قيادة «النصرة» وعناصرها المنقسمين على أنفسهم بشأن قرار ترك «القاعدة». بهدوء، جلس الجولاني ورفيقاه ليعلن: «لم نعد قاعدة. قُضي الأمر بالشورى». وخلال دقائق معدودة، أسقط قائد أكثر التنظيمات تأثيراً في الميدان السوري تسمية «جبهة النصرة»، معلناً فكّ الارتباط مع «القاعدة»، بل أعلن عن تشكيل فصيل جديد سمّاه «جبهة فتح الشام» التي لا ترتبط بأي جهة خارجية، بحسب تعبيره. فأسقط معها الراية السابقة، مستبدلاً إياها براية الإسلام البيضاء.
البيت الأبيض: ما زلنا نعتبر «جبهة النصرة» إرهابية لكننا نجري تقييماً لوضعها
كلمة أمير «النصرة» جاءت بعد ساعات قليلة على نشر تسجيل صوتي صادر عن «المنارة البيضاء»، الذراع الإعلامية للتنظيم، لأحمد الحسن أبو الخير، النائب العام لزعيم «القاعدة» أيمن الظواهري، أضفى فيه الشرعية على قرار الجولاني. نائب الظواهري أعطى الضوء الأخضر لـ«النصرة»، «حرصاً على مصلحة الجهاد في الشام». لم يفت الجولاني ذلك. شكر «الإخوة في قاعدة الجهاد». شكر لـ«الدكتور ونائبه تقديم مصلحة أهل الشام وثورتهم»، معتبراً أن «هذا الموقف سيسطّره التاريخ. سيحكي عن قيادة من نور قدّمت المصالح العامة للمسلمين على المصالح التنظيمية». ووصف موقف قيادة «القاعدة» بقوله: «لقد جسّدوا قول الشيخ أسامة بن لادن رحمه الله بأنّ مصلحة الأمة مقدمة على مصلحة الدولة، وأن مصلحة الدولة مقدمة على مصلحة الجماعة، وأن مصلحة الجماعة مقدمة على مصالح الأشخاص».
قرار فك الارتباط ليس جديداً. حتّى إن غسل اليد من عبء الاسم موجود لدى قيادة «القاعدة» الأم منذ سنوات، بحسب ما كشفت الرسائل السرية التي أفرجت عنها الاستخبارات الأميركية، والتي تُظهر أنّ أسامة بن لادن كان يخطط لتغيير اسم «قاعدة الجهاد»، لكونه ارتبط بأعمال إرهابية شوّهت صورته. أما في الميدان السوري، فإن الفكرة قائمة منذ أُجبرت «جبهة النصرة»، بضغط من أبي بكر البغدادي، على كشف تبعيتها لتنظيم «القاعدة» عام ٢٠١٣. أُحرج التنظيم وحوصر داخلياً ودولياً، وضُيّق عليه اقتصادياً بعد قطع تنظيم «الدولة» إمداداته عنه. لكنه رغم ذلك، استطاع أن يَثبُت وحده في الميدان السوري. كان التنظيم الأول من دون منازع في مقابل الجيش السوري وحلفائه. خلال السنتين الماضيتين، حاولت «النصرة» الذوبان في ائتلاف فصائل سمّوه «جيش الفتح». خطة «النصرة»، والدول الداعمة للمعارضة السورية، كانت تقضي بإبعاد صبغة «القاعدة» المرتبطة بالإرهاب العالمي عن المعارضة المسلحة، لا سيما أنّ «النصرة» تمثّل وحدها رأس الحربة الأقوى في الميدان السوري. لم تنجح الخطة، بقيت «الجبهة» الجزء «الإرهابي» ضمن «جيش الفتح» المصنّف معتدلاً دولياً.
لم يبق أمامها سوى الخروج من عباءة «القاعدة». لكن كيف؟ هل يكفي إعلان فك الارتباط؟ وهل لدى قيادة «القاعدة» أو فرعها السوري اقتناع بأنّ المجتمع الدولي سيصدّقها؟ الجواب قطعاً لا. قيادة «النصرة» تعلم يقيناً أنّ المصلحة مشتركة بينها وبين المجتمع الدولي، وأنّ سمة «القاعدة» تقف عائقاً. وبالتالي، باتخاذها قرار فك الارتباط هي تعين المجتمع الدولي وتعين نفسها في مواجهة النظام السوري. المجتمع الدولي يحتاج إلى «النصرة» كفصيل أساسيّ للتغيير في المعادلة الميدانية السورية، إذ لا وجود لأي قوّة يعوّل عليها للمواجهة. وقد باتت الدول بحاجة ماسة إلى هذه القوة لإحداث التغيير، لكنها في الوقت نفسه محرجة بسبب اعتبارها إرهابية. وفي المقابل، تقف «النصرة» وحيدة في مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» من جهة والنظام السوري وحلفائه من جهة ثانية. وبالتالي، لا فرصة لها سوى بمساعدة دولية لتحقيق مكتسبات سياسية وتحويل الصمود الميداني استثماراً في السياسة. وأمس، لم يكد يُبثّ تسجيل الجولاني حتى خرج متحدثٌ باسم البيت الأبيض يقول: «ما زلنا نعتبر النصرة منظمة إرهابية رغم تغيير اسمها. وتغيير النصرة اسمها لا يعني أنّها غيّرت أهدافها. وجبهة النصرة بمسمّاها الجديد لا تزال هدفاً للقوات الأميركية والروسية». ثم أضاف، «لدينا مخاوف متزايدة من قدرة النصرة على مهاجمة الغرب، وما زلنا نجري تقييماً لوضعها». وبالكلمة الأخيرة، تركت أميركا الباب مفتوحاً أمام «النصرة».
خطوة فك الارتباط التي جاءت بحسب الجولاني «نزولاً عند رغبة أهل الشام في دفع الذرائع التي يتذرع بها المجتمع الدولي»، لم تغيّر شيئاً في أهداف «النصرة» العامة التي عدّدها «الفاتح». اختفى فقط شعار إقامة «خلافة على منهاج النبوة»، ليبقى «العمل على إقامة دين الله، وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين الناس»… لكنه أضاف هنا: «تحقيق العدل بين الناس. كل الناس».
هل يقع انشقاق في «النصرة»!؟
لن يكون سهلاً على جهاديي «جبهة النصرة» فكّ ارتباطهم بتنظيم «القاعدة». المعلومات تكشف أنّ قيادات وعناصر في التنظيم بصدد تركه أو الانشقاق عنه. ورغم استبعاد المصادر التحاق عناصر «النصرة» المعترضين بتنظيم «الدولة الإسلامية»، ورغم اقتناع كثيرين في صفوف التنظيم بأنّ فك الارتباط شكلي، وأنّ الجوهر الجهادي باقٍ على ما هو عليه، تُرجّح المصادر أن يتحوّل التنظيم إلى تنظيمين. تنظيم يؤيّد فك الارتباط مع أصله الجهادي، وآخر يتمسّك بامتداده وارتباطه بـ«قاعدة الجهاد»، رغم مباركة القيادة لهذه الخطوة، لا سيما أنّ قسماً كبيراً من هؤلاء يرفض أصلاً المساومة مع «الطاغوت»، ويرون أنّ ما قام به الجولاني إذعان لضغوط «الطاغوت». وبالتالي، تُرجّح المصادر أنّ تقع اشتباكات بين عناصر وقيادات «النصرة» المنقسمة على نفسها. وهنا تكمن الفرصة أمام «جبهة فتح الشام» لكي تُقدّم أوراق اعتمادها للمجتمع الدولي للقبول بها فصيلاً معتدلاً يواجه المتطرفين.
(الأخبار)