أوباما وهولاند واثقان من النصر حقاً؟
ناصر قنديل
– تطرح اللغة الواثقة من تحقيق النصر على الإرهاب التي يستخدمها قادة الغرب، وفي طليعتهم ما قاله الرئيسان الأميركي والفرنسي باراك أوباما وفرنسوا هولاند في أعقاب حادثة الدهس الجماعية المرعبة في نيس الفرنسية، أسئلة جدّية بحجم التشكيك في صدقية هذه الثقة. فالحرب المعلنة للحلف الذي تقوده واشنطن ويضمّ فرنسا للحرب على داعش مضت عليها سنتان، ولم تحقق أيّ تقدم حيث الاعتماد كان على مقدّرات الغرب، وارتبط التقدّم حصراً بالدور الذي لعبه الجيش العراقي والجيش السوري كلّ في جغرافيته، ومعهما الحشد الشعبي العراقي وحزب الله، ومن ورائهما إيران. وهنا لا نتحدّث عن التلاعب الغربي مع الإرهاب ونيته بتوظيفه وسعيه لاستخدامه في تحقيق مكاسب، وعدم الجدية في خوض الحرب ضدّه. فهذا التلاعب الغربي يفسّر ضعف العزيمة في الحرب مع بداياتها قبل اشتداد المخاطر التي يمثلها، ويفسّر أسباب نموّ التنظيمات الإرهابية وتمدّدها وتجذرها، كما يفسّر عناصر امتلاك التشكيلات الإرهابية التسهيلات والملاذات والأسلحة والمقدّرات التي مكّنتها من النمو، لكن ذلك التراخي الذي بدأ يتلاشى مع تعاظم الخطر لا يفسّر الفشل في خوض الحرب والفوز بها.
– تتيح قراءة تجربة تنظيم «القاعدة» ومتفرّعاته التعرّف إلى التلاعب الغربي عموماً، والأميركي خصوصاً، في العلاقة مع تشكيلات «القاعدة»، ومنتجات الفكر الوهابي منذ أربعة عقود، والثقة بالقدرة على التحكم بمسار هذه التنظيمات وتحديد سقوف أدوارها، بصفتها عدواً، لكنها عدو لأعداء أشدّ خطورة، هم تارة الاتحاد السوفياتي، وطوراً دول وقوى محور المقاومة، وقتالهم بواسطة الإسلام المصنَّع بصيغة تنظيمات جهادية أشدّ فعالية وأسرع إنجازاً، وأقلّ كلفة بالدم والسياسة والجنود، خصوصاً بعدما أظهرت حربا العراق وأفغانستان ارتفاع درجة حساسية المجتمعات الغربية تجاه بذل المال والرجال والدم، في حروب مهما بدت مقنعة في بداياتها، تصير سبباً لتغييرات سياسية جذرية وهيكلية وبنيوية إذا استمرّت وطال أمدها وارتفعت كلفتها، وبدا للغرب والأميركيين أنّ هذه الفعالية تحت السيطرة حتى عندما تضرب في أميركا، كما حدث مطلع القرن الحالي، لأنها تشكل المبرّر للذهاب للحرب. لكن تجربة سورية والعراق تقول اليوم عكس ما قالته التجربة الأميركية مع «القاعدة» في أفغانستان، في مراحل التفاهم والخلاف، فما عاد ممكناً ما كان ممكناً من قبل، فلا قدرة ولا إمكانية لحروب تحتاج ذريعة، وقد جاءت الأساطيل الأميركية لضرب سورية والذريعة متوفرة بلا «القاعدة»، لكنها عادت من دون خوض الحرب، ولا ثقة اليوم في أنّ المصلحة الحاكمة للغرب هي بسحب قواعد شعبية عربية وإسلامية من تأييد خيار المقاومة، كما بدا الأمر بعد العام 2000، بتقديم صورة بطل إسلامي بديل تمثله «القاعدة» ويكون تحت السيطرة. ولا ثقة أيضاً في أنّ المصلحة هي في ترك هذه التشكيلات المنبثقة من «القاعدة» تخوض حروب الاستنزاف بوجه المقاومة كدول وقوى.
– قالت تجربة سورية إنّ حرب الاستنزاف غير قابلة للاستمرار، وإنّ استنهاض قوى دولية كروسيا تدخل على خط الحرب وتغيّر مجراها يفرض على الغرب استدارة من وهم اللاعب المنفرد نحو التفاهمات التي يشكل شعار الحرب على الإرهاب عنواناً وحيداً لها. وأثبتت تجربة سورية أنّ انتصار قوى المقاومة ومَن معها على الإرهاب ممكن، وهو هدف يقترب من التحقق، وقالت أيضاً إنّ الذين يأخذهم فكر «القاعدة» بعناوين وشعارات المذهبية والتطرف من طريق خيار المقاومة، لا يصيرون أصدقاء للغرب، ولا يبقون تحت السيطرة، بل تصير وجهتهم الموضوعية هي الغرب، فلا قضية مظلومية جاذبة لمسلمين في الشرق، رغم كلّ الأكاذيب عن الاضطهاد المذهبي، فالمظلومية القابلة للإقناع لعموم المسلمين هي نهب الغرب ثرواتهم ومساندته الحكومات المستبدّة ببلادهم، ودعمه الأعمى لـ «إسرائيل»، وانتهاكه سيادة دول ديار الإسلام، وتطبيق أبشع أنواع التمييز العنصري ضدّ المسلمين في دول الغرب. وتقول التجربة أيضاً وأيضاً إنّ البيئة الإسلامية حاضنة للتطرف عندما تكون ثمة قضية خارجية بوجه عدو من غير المسلمين، كحال حرب أفغانستان ضدّ الاتحاد السوفياتي أو حربي أفغانستان والعراق بوجه الاحتلال الأميركي، أو حربَيْ الشيشان أو الكوسوفو، لكن في بلاد يكون العدو فيها من البيئة الإسلامية نفسها، فليس من بيئة حاضنة للتطرف إلا في السعودية.
– يكتشف الغرب وفي المقدّمة أميركا الوضع الصعب الذي يعيشه. فالقوى القادرة على التخلّص من الإرهاب في سورية والعراق، هي قوى تخاصم السياسات الأميركية حتى العظم، ونصرها سيكون هزيمة لـ «إسرائيل» الحليف الأبرز لأميركا والغرب. وفي المقابل تجذّر الإرهاب ليس مصلحة غربية، لأنه يمتلك قاعدة انطلاق نحو الغرب نفسه، وليس التجذّر قدراً فقوى المقاومة بالتحالف مع روسيا تبدو قادرة على الحسم نحو النصر، تحت سقف مصالح أمن قومي مشتركة. وفي المقابل، التعاون الأميركي لتقريب النصر يربح الغرب إعلامياً ويظهره في ضفة نصر على الإرهاب، لكن من الناحية الواقعية لا يغيّر الكثير من المعادلات في أزمة الغرب، فالإرهاب سينتقل بسرعة أكبر في هذه الحالة نحو عواصم الغرب، والساحة المحرّرة لن تكون للغرب يد عليا فيها، والإرهاب قادر على التجذر في الغرب أكثر من قدرته على ذلك في الشرق. فهناك فقط يجد التطرف الانتقامي بيئة مناسبة بسبب وجود جاليات إسلامية وازنة تشعر بمعاملة عنصرية مقيتة، ويفشل جيلها الثالث بالحصول على معاملة قانونية إنسانية تقوم على مبدأ المواطنة. وكلما ضرب الإرهاب المستند للتطرف، زادت العنصرية في الغلواء، وكلما زادت العنصرية زاد الإرهاب تجذراً في البيئة الحاضنة.
– مستقبل الغرب القاتم يأتي من مواجهة تحديات مركبة لا قدرة له على مواجهتها، فالغرب خرج للحروب لأنه مأزوم، ويريد السيطرة على منافذ ومنابع الطاقة، وقد خسر حروبه هذه، والغرب ذهب للعبة الفوضى وتبنّى العثمانية عنواناً، والأخونة آلية، والقاعدة ذراعاً وها هو يخسرها وتنتقل اللعبة إلى أراضيه، وها هو يخلي الشرق عسكرياً من أفغانستان والعراق، ويرى سورية والعراق وإيران وقوى المقاومة تتمدّد وتمسك بالمرور الجغرافي الواصل من البحر المتوسط حتى الصين، والأهمّ أنّ المجتمعات الغربية تعيش حال الضياع والتفكك وتفتقد القضية، والضغط الاقتصادي والاجتماعي يزيدها اندفاعاً نحو التقوقع، فتسقط الكيانات الكبرى وتتهاوى، وتصير أشكالٌ وأنماطٌ مثل الاتحاد الأوروبي، وربما الولايات المتحدة الأميركية عرضة للتفكك، وتصعد الموجات الانعزالية للهوية، كما يعبّر عنها خطاب المرشح الرئاسي الأميركي دونالد ترامب، وتصعد الهويات الكامنة العرقية والدينية وتضعف الدولة المركزية، ويزداد التنافس على الموارد الحكومية، ويصير المسلمون في الغرب قنبلة موقوتة يغرف منها تنظيم «القاعدة» بمتفرّعاته ما يشاء.
– ثقة أوباما وهولاند كلام إعلامي للطمأنة، لكنها لا تستند إلى أيّ أساس، فالغرب قادم على سواد داكن، ومن دون قادة تاريخيين وسياسات حكيمة وواقعية، ستتحوّل مدن الغرب نحو مسارح حروب أهلية، السلاح النووي وامتلاك الفضاء والأسلحة الاستراتيجية لا تفيد في هذه الحروب. السياسة وحدها تنفع، سياسة قادرة على الضرب بيد من حديد على التمييز العنصري ضدّ المسلمين وتعلي شأن المواطنة والقانون، بدلاً من الكلام الإنشائي الفارغ عن عدم تحميل الإسلام مسؤولية الإرهاب. سياسة تتّجه نحو الخارج بحثاً عن تسويات تحكمها العدالة والإنصاف والكفّ عن لغة الغطرسة والتعالي والاعتراف بأن الزمن قد تغيّر وأنّ العالم اليوم لم يعُد هو العالم الذي ولد مع سقوط جدار برلين قبل ربع قرن.
(البناء)