تركيا إلى أين ؟
غالب قنديل
انتشرت تأويلات وسيناريوهات كثيرة في التعامل مع المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا حيث يتحول النقاش إلى ضرب من التنجيم والتكهن الذي لا يستند إلى وقائع صلبة لكن المؤشرات الظاهرة تنبيء باضطرابات سياسية وامنية واقتصادية مقبلة على الوضع التركي نتيجة لجملة عناصر حملتها عملية ” التطهير ” التي أطلقها أردوغان والحزب الحاكم والتي شملت ما يناهز العشرين ألفا من ضباط الجيش والشرطة والقضاة وكبار الموظفين في سائر مؤسسات الدولة والحبل على الجرار ناهيك عن آلاف المعتقلين ومئات القتلى ومجهولي المصير .
أولا هذه الحصيلة توازي حصاد سنوات من تجارب الحكومات العسكرية التي أعقبت الانقلابات التي عانت منها تركيا وزعم حزب الأخوان أنه خلص الأتراك منها مع وصول أردوغان إلى السلطة وهي حصيلة تعرض قاعدة الدولة في المجتمع لهزة خطيرة وتحدث شرخا كبيرا في بنية المؤسسات العسكرية والمدنية التركية مما يحرك حالة من القلق والاضطراب الاجتماعي سواء كانت جداول التطهير معدة مسبقا ومن زمن وحاول الانقلابيون منعها بتحركهم كما يقول بعض الخبراء سندا لمعلومات صحافية تركية ام انها أعدت في المخابرات التركية التي انقذت أردوغان بناء على معطيات حول من خططوا للمحاولة الفاشلة ففي الحالتين ثمة جراحة خطيرة تتعرض لها المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإدارية والتعليمية التي تتكون من شرائح اجتماعية تنتمي للطبقات الوسطى وهي محور استقطاب بيرقراطية الدولة والسند التاريخي للاستقرار في المجتمع التركي ومن الواضح ان نزوع رجب أردوغان إلى مركزة الحكم بيديه مع حاشيته الخاصة سيقود إلى المزيد من تقلص القاعدة الاجتماعية الموالية رغم التلاقي الظرفي مع منبوذي الحزب الحاكم في وجه التمرد العسكري وهو ما يكفي لتحريك الاضطراب .
ثانيا سوف تتعمق الجروح الداخلية في صفوف قاعدة الدولة الاجتماعية بعد استباحة هيبة الجيش والقضاء في التدابير التي لحقت بالتمرد العسكري وإثر المظاهر الميليشيوية لتحرك الحزب الحاكم في الشارع بكل بشاعتها وهي تعرض المجتمع لخطر أشد من الديكتاتورية العسكرية بعد تحولها إلى عملية ترهيب إنكشارية منظمة ضد جميع المعارضين والمعترضين الذين يخالفون أردوغان توجهاته إلى نقل تركيا لنظام رئاسي وهو ما تخشاه الأحزاب المعارضة التي تضامنت معه في صد محاولة الانقلاب خشية من عودة الحكم العسكري المبني على حظر الأحزاب وحلها وفقا للتجارب السابقة .
خيارات أردوغان في الداخل ستقرر مستقبل الواقع السياسي فإذا تحول نحو شراكات وتحالفات جديدة في الداخل وانفتح على معارضيه داخل حزبه وخارجه يمكن ان يحد من تداعيات الخضة التطهيرية الخطرة وإن استكمل انقلابه المضاد ومضى في عملية تعديل الدستور ضاربا عرض الحائط بثمار لحظة التراصف السياسي المشترك ضد عودة الحكم العسكري سيؤجج وتائر الانقسام الداخلي ويجعل احتمال انفجار غضب المدنيين والعسكريين معا أفقا مفتوحا للحدث التركي في الفترة القادمة وهنا يصح توقع روبرت فيسك عن احتمال وقوع انقلابات اخرى.
ثالثا التوتر الأمني الناتج عن ارتداد الإرهاب في الداخل التركي وعن الصدع المتمادي مع الجمهور الكردي الذي اكتفى من دجل الحزب الحاكم ومن مناورات أردوغان يؤسس لوضع مضطرب يتمادى في ظله التراجع الاقتصادي الذي يستدعي لتجاوزه استقرارا امنيا وسياسيا وهو امر متعذر في ظروف القلق والتصفيات الداخلية المتلاحقة ومع تقلص القاعدة الاجتماعية للسلطة وانغلاقها على مجموعة صغيرة من قيادات الحزب الحاكم الذي يغلي بالتناقضات بفعل نزعة أردوغان الفردية والسلطوية كما بينت التجربة مع حكم الأخوان الذي اضطر لإجراء انتخابات مبكرة مرتين بسبب عجزه عن تأمين الاستقرار السياسي واحتواء الانقسامات الداخلية خصوصا بعد انتفاضة تقسيم الشهيرة قبل ثلاث سنوات وما اعقبها.
استعادة فرص الاستقرار تفترض التخلي عن خيار احتضان عصابات الإرهاب المعدة للتصدير والتحول عن نهج أردوغان المنغمس بالعدوان على سورية والمضي بمصالحة روسيا وتلبية موجبات الشراكة والجوار اتجاه إيران كلها تقتضي انقلابا ثالثا بعد المحاولة الفاشلة والانقلاب التطهيري وهذا يقتضي موقفا جديدا من الوضع السوري تترجمه تدابير عملية تبدأ بإغلاق الحدود التركية وبتفكيك منصات الحرب العدوانية الآثمة وتتوج بخطوات سياسية نحو الدولة الوطنية السورية والشعب العربي السوري وهذا هو صمام الأمان التركي وبالتالي فالسؤال هل يستطيع أردوغان الانقلاب على نفسه ليضمن استمراره في الحكم ؟