مقالات مختارة

أيّ حرب يمكن لـ «إسرائيل» شنُّها اليوم انتقاماً لهزيمة 2006؟ العميد د. أمين محمد حطيط

 

توقفت العمليات القتالية في جنوب لبنان في صيف 2006 بعد 33 يوماً من انطلاق العدوان الصهيوأميركي على لبنان، العدوان الذي حصل مدعوماً إقليمياً، وللأسف وحتى من قوى لبنان محلية. توقفت تلك الأعمال استجابة لقرار أممي شاءته المجموعة الغربية في مجلس الأمن معبراً سياسياً لتحقيق بعض أهداف العدوان في حماية «إسرائيل» وتطويق المقاومة. قرار جاء تعويضاً عن الفشل في تحقيق أهداف العدوان الأساسية التي تمثلت بشكل علني واضح بسعي أميركي «إسرائيلي» الى تدمير المقاومة في لبنان لتكون الخطوة الأولى لتفكيك محور المقاومة من أجل الانصراف الى بناء الشرق الأوسط الجديد، في صيغة تمكن أميركا من وضع اليد المحكمة على المنطقة ونفطها وممراتها المائية، ويمكنها تالياً من حكم العالم عبر تثبيت نظام عالمي أحادي القطبية بقيادتها.

لقد كانت حرب تموز 2006 او شاءت أميركا أن تكون هذه الحرب مدخلاً للسيطرة على العالم وليس فقط على لبنان والمنطقة، ولذلك كان الفشل في المسعى فشلاً مدوياً، وفي المقابل كان النصر الذي صنعته المقاومة نصراً لا يفسّر بالمعايير العسكرية والعلمية المألوف تطبيقها. ولم يجد قائد المقاومة يومها مناصاً ومن أجل تفسير النصر إلا اعتباره نصراً إلهياً حدث بتدبير إلهي ومشيئة إلهية جعلت على حدّ قول لجنة فينوغراد «الإسرائيلية» التي شكلت بعد الحرب للتحقيق «بالإخفاق الإسرائيلي»، اللجنة تقول انّ «بضعة آلاف من المقاتلين والمقصود بالبضعة عدد لا يتعدّى الـ 5 آلاف مقاتل تمكنوا أن يهزموا جيشاً مجهّزاً بأفضل الأسلحة»… وقد برّرت «إسرائيل» الإخفاق بقصور في الأداء على المستوى السياسي والعسكري. اما حزب الله فقد برّر الانتصار بنعمة الهية ومكرمة من الله أسبغها على مقاتلين محترفين.

ولكن… ومهما قيل فإنه وفي البحث عن سبب هزيمة «إسرائيل» وانتصار حزب الله يجب الا يغيب عن البال أنّ ما تحقق ما كان يحصل لو لم تكن المقاومة أعدّت جيّداً الفرد المقاوم وأعدّت جيّداً ميدان المعركة فحصّنتها ورصنتها بما يجب، ولو لم تكن امتلكت منظومة قيادة وسيطرة برعت في العمل تحت أقسى الظروف ومكّنت الرأس من البقاء على اتصال دائم بكامل جسد المقاومة وبكلّ المقاومين، فضلاً عن امتلاك المقاومة السلاح والمهارات التي فاجأت العدو. مقاومة أظهرت إرادة قتال وشجاعة في المواجهة ندر أن تجد مثيلاً لها في التاريخ العسكري المكتوب والمتسامع به.

لقد جاء القرار 1701 اذن من أجل أن يُفرغ نصر المقاومة من محتواه، حتى أنّ مسودة القرار الأولى معطوفة على نقاط السنيورة السبع، جعلت المراقب يظن بأنّ «إسرائيل» انتصرت وهزمت المقاومة، إذ كيف نبرّر ان تتضمّن هاتان الورقتان نصاً بنزع سلاح المقاومة وتكليف قوى دولية تعمل تحت الفصل السابع بتنفيذ القرار والتمركز في الجنوب لحماية «إسرائيل»؟

لكن صمود المقاومة سياسياً مع مؤازرة وإسناد لها من قوى سياسية وطنية لبنانية خفف من مخاطر المسعى الدولي من دون أن يسقطها وتكفلت المقاومة في التطبيق والعمل الميداني والليونة في فهم النصوص وتفسيرها ربطاً بخلفيتها الميدانية والمرونة في التحرك، متمكّنة من التملّص عملياً من سموم القرار 1701 وسارت في طريق يسلكها المنتصرون الواعون: طريق حفظ الانتصار واستثماره لحماية لبنان.

لقد كانت المقاومة ولا زالت على يقين بأنّ «إسرائيل» المهزومة وأميركا المكلومة لن تسكتا على هزيمة او جرح، وانهما لا بدّ يعدّان للانتقام من المقاومة بكلّ الوجوه ولن تكون الحرب والقتال في الميدان الا أحد وجوه الانتقام. كيف لا والقرار 1701 جاء بنص على وقف العمليات العدائية ولم يتضمّن وحتى اللحظة نصاً على وقف النار، كما هو مألوف عادة في إنهاء النزاعات المسلحة. فـ «إسرائيل» لا تقبل بان تختتم الحرب بهزيمة لها، لذلك علّقت أعمال الحرب حتى تستأنفها متى تيقنت من قدرتها على الانتصار، وبالتالي فإنّ المنطق يفرض القول بأنّ «إسرائيل» ومنذ 2006 تعدّ نفسها لاستئناف الحرب بما يمكنها من الانتصار.

لقد وعت المقاومة هذه الحقيقة، وعملت على ضوئها من أجل امتلاك القوة العسكرية التي تمكنها من منع الحرب أصلاً وتحقيق الامن وحماية لبنان من المخاطر الإسرائيلية، كما وتمكنها من المواجهة العسكرية الدفاعية مع العدو إذا تجرأ وذهب الى الحرب، مواجهته بما يمنعه من تحقيق أهداف عدوانه إنْ عاد الى الميدان.

إنّ ما نتج بعد حرب العام 2006 يطرح سؤالاً مركزياً وهو وبخلاف ما يسأل الكثيرون، الذين يسألون هل ستقع الحرب وكيف ستنتقم «إسرائيل» من حزب الله وتعوّض خسارتها السابقة؟ اما السؤال الواقعي والموضوعي الذي نطرحه فهو: متى ستقع الحرب وهل يمكن منعها لحماية لبنان من العدوان؟ وهنا الخلاف بين مَن يرى مشروعية المقاومة وحقها في حماية لبنان الى جانب الجيش الذي يضيق عليه بالسلاح وسواه، ومن لا زال يعتقد بأنّ «إسرائيل» قوة لا تقهر وبأنها ستدمّر المقاومة ومن يحتضنها.

لقد تمكّنت المقاومة من تحقيق النجاح في امتلاك القوة الرادعة لـ «إسرائيل» عن الحرب والعدوان، وحازت على القوة التي تمنع «إسرائيل» من تحقيق الإنجاز العسكري الذي تريد في الميدان، ما جعلها تبلغ مستوى الردع الاستراتيجي الفعال. فالمقاومة على حدّ ما تقول «إسرائيل» تملك 100 ألف صاروخ متفاوتة المدى قادرة على الوصول الى أيّ نقطة في فلسطين المحتلة وتوقع فيها أثراً تعطيلياً او تدميرياً، كما انّ بإمكانها وعلى حدّ توصيف مراكز الدراسات الغربية أن تصبّ ثقلاً نارياً مكثفاً على أيّ منطقة مدنية او عسكرية في «إسرائيل» وتعطّل فيها دورة النشاط والحياة العامة وتسقط النظرية «الإسرائيلية» التي على أساسها تمّت صياغة استراتيجية حماية الجبهة الداخلية على أساس «مجتمع يعمل تحت النار». فالمقاومة وبكلّ بساطة حققت مبتغاها خلال السنوات العشر الماضية، فحققت توازن الردع مع «إسرائيل» ولم يعد قرار الحرب بيد «إسرائيل» تمارسه بطلاقة وحرية متى شاءت، كما امتلكت ما يمنع «إسرائيل» من الانتصار ولم يعد الذهاب «الإسرائيلي» الى الحرب مضمون النتائج.

ولأنّ الوضع هكذا، فإنّ «إسرائيل» تعوّض عن العجز في الميدان بالتهويل في الإعلام والمواقف السياسية وبالحرب النفسية ضدّ لبنان عامة، وحزب الله خاصة، وتتصرف مقتنعة بأنّ حزب الله وحده هو من يقف بوجه طموحاتها في لبنان، فبعد ان أعلنت وبوضوح انّ «حزب الله يحمي لبنان» ويشكل عائقاً او خطراً على مصالحها، تطالب اليوم على لسان مندوبها في الأمم المتحدة باجتثاث حزب الله من جنوب لبنان في موقف وقح يصدر عنها، وكأنّ حزب الله حزب أجنبي مستورد الى لبنان، ثم تهوّل بأنّ الحرب المقبلة ستكون تدميرية في أعلى الدرجات وتشمل كلّ لبنان، تقول هذا متناسية ما تعرفه وتقول به هي من قدرة حزب الله التدميرية أيضاً ضدّ مصالحها في فلسطين.

انّ «إسرائيل» تتمنى أن تتحقق اليوم قبل الغد شروط ذهابها إلى الحرب من أجل مسح هزيمة 2006 والانطلاق السريع في بناء فضائها الاستراتيجي الحيوي في المنطقة، لكن هذه الشروط غير متوفرة الآن، فلا هي واثقة من إمكانية هزيمة حزب الله في الميدان، ولا هي مقتنعة بقدرتها على حماية مجتمعها واحتواء ردّ فعل حزب الله، ولا هي مطمئنة الى الظروف الإقليمية الدولية التي تساعدها في صرف الإنجاز العسكري سياسياً، هذا إذا تحقق. ولذلك تبقى الحرب مفترضة تشنها «إسرائيل» ضدّ حزب الله ولبنان تبقى قراراً متخذاً مؤجل التنفيذ لتخلف شروط نجاحه، ما يجعل الحرب النفسية والتهديد والضغوط المتعدّدة الوجوه هي الحروب البديلة التي تتولاها «إسرائيل» وحلفاؤها من أعداء المقاومة، تبقى هي الحروب المتاحة ضدّ حزب الله ولبنان.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى