«داعش» في ذكرى «الخلافة»: من «التمكين».. إلى «النكاية»! دمشق – عبد الله سليمان علي
فوارق كثيرة تميز بين سلسلة تفجيرات القاع اللبنانية المرتبكة والضعيفة من جهة، وتفجيرات مطار اسطنبول في تركيا ذات التنفيذ الاحترافي المتقن من جهة ثانية.
لكن ما لا شك فيه أن أجساد الانتحاريين الأحد عشر التي تشظت قبيل ساعات من دخول «دولة الخلافة» عامها الثالث، كانت كفيلة برسم ملامح كارثية على وجه المنطقة بأسرها، من خلال تأكيدها أن منظومة الأمن المعمول بها غير كافية لمواجهة التحدي الأخطر الذي تواجهه بعض الدول منذ عقود، والتي ستكون مستهدفة بقوة جراء تداعيات ما يجري العمل عليه حالياً على المستوى العالمي لجهة إنهاء أخطر تنظيم إرهابي عرفه العالم في تاريخه، وتفكيك قدراته ومنظوماته الهائلة تمهيداً للتخلص منه. فهذا التفكيك يجري وفق حسابات سياسية بحتة لا تأخذ بالاعتبار الكافي المخاطر الأمنية المتشعبة التي يمكن أن تترتب عليه وتشمل آثارها العالم بأسره.
وعدم تبني تنظيم «داعش» لكلتا سلسلتي التفجيرات، قد يكون القاسم الوحيد الذي يجمع بينها، بالإضافة إلى الإطار الإستراتيجي الذي من المتوقع أن هذه التفجيرات تسعى لتشكيله في المرحلة المقبلة، فيما تتعدد الفوارق بين السلسلتين، سواء لناحية الأداء أو لناحية الأهداف المتوخاة منها.
وحتى الآن، تؤكد التحقيقات الجارية في كل من بيروت وأنقرة على أن التفجيرات التي استهدفت الدولتين هي من تدبير تنظيم «داعش»، مع توافر معلومات عن الأشخاص المنتحرين تثبت على الأقل أنهم جميعاً يملكون تاريخاً معيناً من الانتساب إلى التنظيم والعمل لمصلحته. لذلك قد لا يكون إقرار التنظيم بتنفيذ هذه التفجيرات من عدمه موضع اهتمام، خصوصاً أن «داعش»، لأسباب معينة تعود إلى طبيعة علاقاته الخاصة مع الاستخبارات التركية التي قامت في مراحل كثيرة على أساس التخادم وتقاطع المصالح وأحياناً المصلحة المشتركة، تجنّب حتى الآن تبني بعض التفجيرات التي استهدفت تركيا سابقاً، وأكدت التحقيقات التركية ضلوع عناصر التنظيم بتنفيذها.
من حيث التوقيت، جاءت التفجيرات في لبنان وتركيا عشية الذكرى الثانية لإعلان «دولة الخلافة» في التاسع والعشرين من حزيران في العام 2014، وبعد أسابيع قليلة من تهديد المتحدث الرسمي باسم «داعش» أبي محمد العدناني بتنفيذ عمليات قاتلة في شهر رمضان، رداً على الحملة العسكرية التي يتعرض لها التنظيم، والتي أدت إلى خسارته ما يقارب نصف المساحة التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق. وليس هناك معطيات تؤكد أن التنظيم تقصَّد تنفيذ هذه العمليات كتعبير عن إحياء ذكرى «خلافته». غير أن هذا التزامن، ولو كان غير مقصود، أعطى الحدثين بعداً أكثر أهمية.
ويبدو موضوع التوقيت أمراً تفصيلياً أمام الإطار الإستراتيجي الذي حصلت فيه تفجيرات لبنان وتركيا، ومن المتوقع أن يتعزز بتفجيرات أخرى قد تضرب بلداناً مختلفة، إذ تؤكد هذه العمليات الانتحارية المكثفة أن التنظيم قد قطع شوطاً بعيداً في عملية التحول داخلياً من «دولة» إلى «جماعة»، أو الانتقال العكسي من مرحلة التمكين إلى مرحلة النكاية، مع ملاحظة أن التنظيم نفسه لم يلجأ إلى هذا التحول عندما دحرته «صحوات العشائر» في العراق بالتعاون مع القوات الأميركية بعد العام 2007، فلم يُسَجَّل في الأعوام التي أعقبت هزيمته المدوية تلك أنه قام بتنفيذ أي عملية خارجية رداً على هذه الخسارة.
هنا قد يكون البعض سخر من كلام العدناني في خطابه الأخير حول عدم أهمية خسارة الأرض، وأن المهم هو «إرادة القتال»، ولكن بغض النظر عن جانب السخرية، فإن كلام العدناني يعبر تعبيراً حرفياً عن سياسة التنظيم وطبيعة توجهاته، وينبغي فهمه على هذا الأساس. ولا يعني ذلك، بأي حال من الأحوال، أن التنظيم سيتخلى طواعية عن الأراضي التي يسيطر عليها، بل سيقاتل بشراسة للاحتفاظ بأي جزء منها، وقتاله في منبج قد يكون دليلاً على ذلك، لأن التنظيم يراهن على تغيير الظروف المحلية والإقليمية وإمكان الاستفادة منها لإبقاء «دولته». ولأنه أيضاً يحتاج إلى وقت لاستكمال عملية التحول التي تحتاج إلى بنية تحتية وأساليب عمل مختلفة، وكذلك من أجل إقناع «حاضنته» ومناصريه وفروعه في البلدان الأخرى بضرورة هذا التحول وفوائده على «مسيرة الجهاد»، التي يطرح التنظيم نفسه كزعيم لها على مستوى العالم.
قد تكون هذه المرحلة الانتقالية، التي ترخي بظلالها على التنظيم ومصيره، وتفرض نوعاً من التشتت والتفاوت بين أفرعه و «ولاياته» على مستوى الأداء، نتيجة اختلاف التأثر بالتراجع الحاصل له على الأرض في بعض المناطق، أحد الأسباب التي أدّت، إلى جانب أسباب أخرى، إلى بروز الفوارق بين التفجيرات التي ضربت بلدة القاع اللبنانية النائية، وتلك التي ضربت أحد أكثر مطارات العالم ازدحاماً، مطار أتاتورك في اسطنبول.
إذ على الرغم من أنها المرة الثانية التي يحشد فيها التنظيم عشرة انتحاريين دفعة واحدة لتنفيذ عملية له، حيث سبق له حشد هذا العدد نقسه في استهداف مدينتي جبلة وطرطوس، فإنه من غير الواضح حتى الآن ما هي الأسباب والعوامل التي أدت إلى «فشل» تفجيرات القاع، وظهور المنفذين بمظهر مجموعة شبان راغبين بالانتحار الجماعي، لا «مجاهدين» يسعون إلى الإثخان بعدوهم.
وشتان ما بين تفجيرات جبلة وطرطوس وبين تفجيرات القاع، سواء لجهة طريقة التنفيذ والأداء أو لجهة عدد الضحايا والمصابين، مع الإشارة إلى أن غالبية منفذي تفجيرات طرطوس وجبلة هم من السوريين أيضاً، أي أن جنسية الانتحاريين ليس لها علاقة بنوعية الأداء.
ويصعب لمن يشاهد تفجيرات مطار اسطنبول، ويلاحظ مدى دقتها والتعقيد المحيط بتنفيذها والحصيلة المترتبة عليها، أن يصدق أن الجهة نفسها التي خططت لها تقف وراء التخطيط لتفجيرات القاع الرديئة التنفيذ، لاسيما أن الفاصل بينهما ساعات فقط. كذلك الأمر بالنسبة لتفجير قاعدة الركبان في الأردن، لأنها استلزمت تخطيطاً دقيقاً وتم تنفيذها بنجاح. ومن المرجح أن «فشل» تفجيرات القاع يعود لأسباب تتعلق بالمنفذين أنفسهم، وظروف التنفيذ الآنية التي كانت تحيط بهم، وليس بالتنظيم كجهة مسؤولة عن التدريب والتخطيط، لأنه سبق لـ «ولاية دمشق» التي تتبع لها منطقة القلمون المسؤولة عن الإشراف على العمليات التي تستهدف لبنان أن نفذت عمليات ناجحة كما حصل في برج البراجنة. كما أن الولاية نفسها تولت الإشراف على العمليات التي استهدفت السيدة زينب بدمشق.
وفي ظل المعطيات المتوافرة، والمعلومات التي رشحت عن التحقيقات اللبنانية، والتي ترجح أن بلدة القاع كانت هي الهدف النهائي للانتحاريين العشرة (اثنان لم ينفذا ومصيرهما مجهول)، يمكن القول استناداً إلى ذلك، أن تنظيم «داعش» في ظل التغيير الإستراتيجي لطبيعة نشاطه المستقبلي أصبح لديه خطة طويلة الأمد تقضي باستهداف الأقليات الدينية، تمهيداً لزرع بذور الفتنة بين مكونات المجتمع الواحد، وهو ذاته الهدف من وراء تفجيرات طرطوس وجبلة، وكذلك من وراء الاستهداف المتكرر لمنطقة السيدة زينب في ريف دمشق.
لكن الأمر في تركيا مختلف، فالتنظيم لا يسعى إلى الفتنة هناك، لسبب بسيط هو أنه لا يعتبر الأراضي التركية مكاناً للإقامة والاستقرار فيه، بل هي معبر وعمق لوجستي. والتنظيم لا يحتاج إلى الفتنة إلا لخلق جو الفوضى المناسب لنموه وتأمين بقائه. لماذا استهداف تركيا إذاً؟ ولماذا يصر التنظيم على تمييز تركيا وعدم تبني العمليات التي يقوم بها فوق أراضيها؟
تفجيرات مطار اسطنبول تعد نقلة نوعية في عمليات التنظيم ضد تركيا، فالعمليات السابقة التي اتُّهم التنظيم بارتكابها استهدفت بمجملها (وهي سبعة تفجيرات) أهدافاً كردية أو بعض تجمعات السياح الأجانب، أما هنا فنحن أمام عملية تستهدف، للمرة الأولى، مؤسسة رسمية تركية، أي أن الهدف هو الدولة والحكومة التركيتان. وثمة احتمالان لتفسير ذلك، إما أن التنظيم ما زال يراهن على إمكان استعادة الدفء في علاقته مع جهاز الاستخبارات التركي الذي كان يغض الطرف عن نشاطه طوال الأعوام السابقة، خصوصاً أن «داعش» أصبح على وشك الاختناق بعد قطع غالبية خطوط التواصل والإمداد بينه وبين الحدود التركية، وبالتالي هو يرسل رسالة إلى السلطات التركية بأنها ستدفع الثمن إذا تواطأت مع أعدائه على عزله وخنقه. وإما أن يكون هناك اختراق أمني (محلي أو إقليمي أو دولي) لخلايا التنظيم المسؤولة عن نشاطه في تركيا، وأن بعض الدول تستغل هذا الاختراق لتوسيع الهوة بين تركيا وبين التنظيم، ومنع إعادة الوضع بينهما إلى حالة الدفء السابقة، بل وإعطاء أنقرة ذرائع للذهاب بعيداً في معاداة التنظيم تمهيداً لتحرك ما ضده داخل الأراضي السورية.
(السفير)