الدولة السورية على خطّ العشائر عامر نعيم الياس
نقل التلفزيون السوري الرسمي منذ يومين في نشرة أخباره الرئيسة، مشاهد لما قال إنه التحاق قوّات عشائر دير الزور الشرقية بالجيش السوري على جبهات مطار دير الزور الذي يتعرّض لأعنف هجمة من تنظيم «داعش»، بهدف السيطرة عليه. وظهرت في الخبر المصوّر لقاءات مع أبناء عشائر في دير الزور، لم تُذكَر أسماؤها، لكن التقرير حرص على إبراز الطابع المستقلّ للقوّة التي انضمّت إلى الجيش السوري، فهي لا تنتمي إلى الوحدات المقاتلة ولا إلى الجيش الشعبي أو قوات الدفاع الوطني. فهل نحن أمام تشكيل جديد في المناطق التي يغلب عليها الطابع القبلي؟
منذ بداية الأحداث المؤلمة في سورية، وفي درعا التي تشكل العشيرة فيها مكوّناً أساسياً، ظهر جليّاً اصطفاف العشائر إلى جانب «الحراك» الذي حصل في البداية عملاً برابطة الدم وعرف «الفزعة»، وخرجت الأمور مبكراً في تلك المحافظة الحدودية عن السيطرة، وفي 11/6/2011 وهو يوم الجمعة بما كان يحمله من رمزية التظاهرات، سمّي هذا اليوم بـ«جمعة العشائر»، كما شُكّل مجلس للقبائل انضمّ إلى المجلس الوطني السوري الذي كان يعتبر حينذاك المكوّن السياسي الأساس في «المعارضة السورية» قبل أن تنتهي صلاحيته السياسية لمصلحة ما يسمّى «الائتلاف» الذي قاده في أوج الترويج له سياسياً أحمد عوينان الجربا، وهو من أبناء «قبيلة شمّر» في سورية، وذلك في محاولة لإرضاء هذا المكوّن الهام من الشعب السوري والذي يغلب طابعه على محافظات دير الزور والحسكة والرقة، إضافةً إلى أرياف حلب وحماة وجزء من ريف حمص وإدلب. لكن على رغم ذلك، بقيت محاولات التأثير السياسي على العشائر ومحاولات صهرهم في أطر «المعارضة السورية» غير ذات قيمة، وجنحت هذه العشائر إلى استغلال اللحظة والاعتماد على قواها الذاتية وروابطها مع العشائر الأخرى من أبناء عمومتها، من أجل تكريس نوع من الاستقلال الذاتي عن كافة الأطراف المتحاربة، وطرح نفسها كطرف مستقل في لعبة إعادة تشكيل سورية، وهذا ما جرى في محافظة دير الزور على سبيل المثال. فقد لوحظ احتضان التنظيمات الوهابية السلفية في تلك المنطقة على حساب التنظيمات الأخرى، نظراً إلى الرابطة العشائرية أولاً على طرفي الحدود العراقية ـ السورية، فضلاً عن الانخراط الواسع لأبناء العشائر في دعم الحركات العراقية المسلحة في مواجهة الاحتلال الأميركي للعراق عام 2002، ولنا في مثال بلدة الشحيل التي كانت المقرّ الرئيس لـ«جبهة النصرة»، في البلاد، ومقرّ زعيمها أبي محمد الجولاني المثال الأكبر على ذلك، فقد استغلت عشيرة «الظاهر» التي تقطن الشحيل تأييدها لـ«النصرة» وانخرطت في صفوفها، ما مكّنها من السيطرة على حقل «العمر» النفطي، الأكبر في البلاد، ومعمل «كونيكو» الأهم على مستوى سورية.
لقد قلب «داعش» الطاولة على رؤوس الجميع واندفع في ضرب العلاقة مع القبائل في سورية كما جرى في بعض المناطق في العراق، إلى الحدود القصوى. ففي صيف 2014 ومع سيطرة «داعش» على بلدة الشحيل وهروب الجولاني منها باتجاه ريف حماة الشمالي، اندلعت مواجهات عنيفة بين «داعش» وأبناء عشيرة «الشعيطات» من قبيلة «العكيدات»، أدّت إلى مقتل أكثر من ألف شخص من أبناء العشيرة، وهو ما ساهم بشكل مباشر في تنامي النقمة في صفوف العشائر ضدّ «داعش»، إلى جانب عوامل أخرى أهمها:
لا يتفوّق الديني على رابطة الدم عند العشائر، هذا بعد على الجميع إدراكه في إدارة اللعبة معها، لكن «داعش» في سورية لا يريد الاعتراف بذلك، بل يحاول تدمير الهوية العشائرية والقبلية لمصلحة ما هو ديني، وهذا أمر يساهم في ارتفاع نسب العداء له.
التنافس بين العشائر تقليدياً وعوامل التفرقة بينها سمحت للدول التي تقيم العشائر على أراضيها بالسيطرة على هذا المجتمع عبر نسج تحالفات مع عشيرة في مقابل تهميش أخرى، ما ساعد في التحكم بالقبيلة وهي الإطار الأوسع الذي يضمّ عدّة عشائر. ووفقاً لهذا المبدأ، نلاحظ انقسام العشائر في شرق سورية بين مؤيد لـ«النصرة» ومؤيّد لـ«داعش»، فالعشيرة تأبى أن تكون تحت إمرة عشيرة أخرى لذلك تجنح إلى ابتزاز تنظيم على حساب تنظيم آخر ونسج علاقات تحالف معه تكون هي الأساس فيه.
إن ما سبق دفع كافة الأطراف المنخرطة في الصراع على سورية إلى التسابق على امتلاك ورقة القبائئل السورية التي يسمح التحالف معها بالسيطرة على مدن ذات أهمية استراتيجية، أو بالأحرى استعادة السيطرة على هذه المدن وفق اتفاق معيّن يحفظ دور كل طرف، فالقبائل السورية في غالبيتها قبائل حضرية تسكن المدن وتشكل العمود الفقري لبعضها، فقد أورد عددٌ من وكالات الأنباء خبراً عن تحرك أحمد عوينان الجربا الرئيس السابق لما يسمّى «الائتلاف السوري» لتشكيل جيش من العشائر لملئ الفراغ الذي يمكن أن يخلفه انسحاب «داعش» من بعض المناطق في شمال البلاد وشرقها، واليوم تبرز الدولة السورية ملف قوات العشائر على اعتبارها تشكيلات مستقلة تقاتل إلى جانب الجيش السوري، مجموعة معطيات ترمي الكرة في ملعب العشائر السورية التي يبدو أنها تحاول بعقليتها النفعية تاريخياً والتي ميزت تحالفها مع الدولة السورية بعد الاستقلال، أن تعيد طرح ورقتها وسط تطورات ميدانية وسياسية متسارعة تطرح فيها من جديد تجربة الصحوات في العراق عام 2007 وإن بصيغ ومسميات مختلفة.
(البناء)