إرهاب وقرصنة في ميزان الانتخابات د.منذر سليمان
انقلاب في الاولويات
درجت العادة ان يستقبل الاميركيون الفترة الفاصلة بين انتهاء الانتخابات التمهيدية وانعقاد مؤتمري الحزبين براحة معنوية تعينهم على تحمل اعباء الصراعات القاسية المرئية، لحشد الطاقات والخبرات المطلوبة للاستجابة للاهتمامات الشعبية المتمثلة في حال الاقتصاد، بالدرجة الاولى. وجاءت حادثة اطلاق النار في فلوريدا لتعيد ترتيب الاولويات وفي صدارتها تهديد الارهاب وتقييد حركة شراء الاسلحة وفرض قوانين واجراءات جديدة على المهاجرين.
بيد ان التطورات الانتخابية للسنة الحالية سارت باتجاه مغاير، وشهد الاسبوع المنصرم نشاطات فوق العادة للمرشحين. اذ برزت السيدة هيلاري كلينتون كمرشحة اقوى لنيل ترشيح الحزب الديموقراطي بعد تفوقها في مراكمة عدد المندوبين قبل المؤتمر الحزبي، رافقها تقلبات بيانات استطلاعات الرأي مع دلالتها على التحاق ما تبقى من قيادات ديموقراطية بحملتها واعلان التأييد لها.
في الطرف الآخر، تفوق المرشح المحتمل دونالد ترامب على نفسه في استيلاد اعداء جدد باطلاقه تصريحات معادية لقاضي محكمة فيدرالية، ذو اصول مكسيكية، مما اطلق سهام الانتقادات المتزايدة نحوه. بيد انها لم تكن بالقدر او الحدة المطلوبة لثنيه عن تصريحات سليط لسانه وكسب مزيد من الاعداء.
وما لبثت هيلاري كلينتون ان راكمت المزيد من الدعم عقب تلقيها تأييد رسمي من البيت الابيض، واستغلت الثغرات السياسية التي افتعلها ترامب لصالحها جماهيريا.
وسرعان ما طغت حادثة اطلاق النار داخل ملهى ليلي في اورلاندو بولاية فلوريدا على الكم الاوسع من التغطية الاعلامية واهتمامات النخب السياسية والفكرية. وتسابقت الوسائل الاعلامية المتعددة لابراز رابط غير موثق بين مطلق النار، عمر متين، وتنظيم الدولة الاسلامية، فضلا عن خلفيته الاسلامية، مما ادى الى ارتفاع طفيف في أسهم ترامب.
بيانات استطلاعات الرأي التي اجريت مباشرة بعد الحادثة اظهرت اصطفاف نسبة ضئيلة بزيادة لا تتجاوز 4% من الاميركيين وراء ترامب كمرشح مفضل لمعالجة تحديات مماثلة من الارهاب داخل الاراضي الاميركية. وفي ذات السياق لا زالت الاغلبية النسبية من الاميركيين، 50%، تعارض فرض قيود اضافية على اقتناء الاسلحة والبنادق شبه الاوتوماتيكية.
لم يدخر ترامب جهدا لاستنهاض اعدائه ومحاولة الايقاع بخصومه معتبرا ما جرى هو “تعرض ملهى ليلي مليء باناس اميركيين ابرياء جرى قتلهم بدم بارد.” واضاف زاعما ان “الارهابيين المسلمين وضعوا نصب اعينهم شن هجوم على مجمع ملاهي ديزني،” التي تقع في ذات المدينة. ومضى بالقول ان “اميركيين يعشقون الحرية تم حصدهم بغبطة وسرور من قبل متطرف وارهابي اسلامي مخلص تملأ الكراهية قلبه.”
الساسة المسؤولون، وعلى رأسهم الرئيس اوباما والمرشحة هيلاري كلينتون فضلوا طريقا مغايرا لاتهامات ترامب العشوائية، وتسليط الجهود مرة اخرى على مسألة وضع قيود على اقتناء السلاح وحرمان المتطرفين من شرائه.
شددت كلينتون على مفردات “الخطاب التحريضي ضد المسلمين والتهديد بحظر دخول عائلات باكملها واصدقاء لاميركيين مسلمين، وكذلك الأمر ضد ملايين المسلمين من اصحاب الاعمال والراغبين بالسياحة الى بلدنا مما يلحق الضرر بالغالبية العظمى من المسلمين الذين يعشقون الحرية وينبذون الارهاب.”
وحذرت كلينتون المؤسسات الاميركية التي تسارع بتنبي الخطاب الاقصائي بان معدلات “جرائم الكراهية ضد المسلمين الاميركيين ومساجدهم تضاعفت ثلاث مرات منذ هجمات باريس وسان بيرنادينو. انه خطأ، كما انه خطير ويصب في خدمة الارهابيين.”
الرئيس اوباما بدوره حافظ على هدوئه المعتاد وتبديد اوهام اخطار الارهاب، عززه مقابلته الشهيرة مع مجلة اتلانتيك التي جاء فيها ان الرئيس اوباما “لم يؤمن يوما بأن الارهاب يشكل خطرا على اميركا يتناسب وحالة الخوف المرافقة له.” واضافت الاسبوعية ان اوباما “يذكِّر مساعديه على الدوام بأن ضحايا الارهاب في اميركا اقل كثيرا من حوادث اطلاق النار، وحوادث السيارات، واولئك الذين يتساقطون في حمامات بيوتهم.”
توجه الرئيس اوباما مباشرة عقب حادثة اورلاندو يخاطب الاميركيين بأن الفاعل “متطرف محلي .. الهمه الخطاب الدعائي والمنحرف عن الاسلام الذي نراه متجسدا على شبكة الانترنت.” وحرص الرئيس اوباما على عدم الايحاء بربط حادث اطلاق النار بتنظيم الدولة الاسلامية.
انضم بعض قادة الحزب الجمهوري لتأييد خطاب الرئيس اوباما، ولوبتردد، اذ قال رئيس مجلس النواب، بول رايان، انه يشاطر الرئيس اوباما ما قاله، مضيفا انه يعتقد بأن دونالد ترامب كان قاسيا اكثر من اللازم على المسلمين.
من المفارقة السياسية رؤية انضمام بعض الساسة عن الحزب الديموقراطي الى ترامب وخطابه، ابرزهم كان العضو السابق في مجلس النواب بارني فرانك الذي تضامن مع ترامب من واقع حرصه على “سلامة المثليين،” الذين هو احدهم. واوضح قائلا ان الهجوم “يدل على مدى الكراهية الخبيثة في اوساط ذلك القطاع من الاسلام .. نعم نجد هنا عنصرا اسلاميا بوضوح للأسف، عنصر يتبع مدرسة فكرية محددة في الاسلام تشجع على قتل الآخرين.”
قولبة التصويت
في ظل المناخ المشحون والمنقسم في المشهد السياسي الاميركي، خاصة لمناهضة اعداد متزايدة للمرشح المحتمل دونالد ترامب. ويبرز السؤال للتعرف على كنه تصويت الاميركيين يوم الحساب. تجدر الاشارة الى ان الغالبية المعتبرة من كلا الحزبين تمارس حقها بالتصويت لصالح الحزب السياسي بصرف النظر عن مرشحه او منافسه.
بيد ان اتساع الهوة السياسية بين المسؤولين والناخبين في الموسم الراهن يؤشر ربما الى نتيجة مغايرة تأخذ بعين الاعتبار عدد من العناصر منها “الفوارق الحضارية” بين المناطق الاميركية المختلفة، والتي تعكس حقيقة تنوع وتعدد مكونات الشعب الاميركي، خاصة عند الاخذ بعامل الدين والتدين بعين الاعتبار.
قياسا على ذلك، تندرج حادثة اورلاندو لكيفية تحكمها بتوجهات الرأي العام. فريق سياسي يرى فيها نتاج سياسات رخوة لضبط اقتناء السلاح وما تؤدي اليه من مشاعر الكراهية ضد مجموعات بعينها، سواء عرقية او دينية. الفريق الآخر المقابل رأى الحادثة بأنها نتيجة سياسات رسمية متسامحة مع هجرة المسلمين من دول الشرق الاوسط، وتجسيد لفشل سياسات التصدي “للارهاب الاسلامي المتطرف.”
ما هو محل اجماع بين الاطراف المتعددة هو تفاقم الهوة بين الفريقين وعسر جسرها في اي وقت قريب، والعقبات الكبيرة التي ستعترض جهود المرشحين للرئاسة، كلينتون وترامب، والرئيس اوباما ايضا لتقريب وجهات نظر الطرفين.
يمكن للمرء الاستنتاج بأن حظوظ تجسد تغيرات سياسية بعد الحادثة تبقى بعيدة المنال. فادارة الرئيس اوباما لن تقدم على ادخال تعديلات جوهرية على سياستها في مكافحة الارهاب، لا سيما وان الرئيس اوباما دأب على حث الاميركيين التزام الهدوء ومطالبة اعضاء الكونغرس بتشديد القيود على اقتناء السلاح.
تشديد القيود على اقتناء السلاح، مادة ملازمة للخطاب السياسي وعند كل موسم انتخابي. لو افترضنا جدلا ان الكونغرس سيتحرك بهذا الاتجاه، والذي من شانه الاصدام المباشر مع اولياء نعمته من الشركات الكبرى، فان الصيغة القانونية ستأتي مطاطة للتأكيد على الانحناء امام عاصفة الاهالي المتضررين من حوادث اطلاق النار. اما في ظل الهجوم قيد البحث فان المرجح تزايد اعداد الاميركيين المطالبين بحق اقتناء السلاح، كما تدل استطلاعات الرأي بثبات عليه؛ اذ ارتفع معدل شراء الاسلحة النارية بنحو ثلاثة اضعاف بعد حادثة اطلاق النار في مدرسة ساندي هوك الابتدائية، نهاية عام 2012.
احد الاستطلاعات الحديثة جرت باشراف شبكة (ايه بي سي) للتلفزة دلت على معارضة كبيرة من الاميركيين لحظر الاتجار بالاسلحة، 53% مقابل 45% تؤيد الحظر. بينما بلغ حجم تأييد الحظر 80% من الاميركيين عام 1994. ودل استطلاع مماثل اجرته وكالة بلومبيرغ للانباء فور حادثة اورلاندو الى معارضة 50% من البالغين لفرض حظر على الاسلحة.
استقراء التوجهات المقبلة للناخبين الاميركيين تشير بوضوح الى اولوية الحالة الاقتصادية، وبقاء مسألتي الارهاب والحد من الهجرة كحجري رحى بين الفريقين، الديموقراطي والجمهوري، يتبادلان الاتهامات بشأنهما. خطاب ترامب العنصري لقي اصداء عند الناخبين الذين اعرب نحو 51% عن اعتقادهم بأن “التطرف الاسلامي” يشكل اكبر تهديد لمستقبل البلاد، 16 حزيران الجاري؛ مما يعكس نجاح ترامب في تسخير الهجوم لخدمة خطابه السياسي. وتجدر الاشارة في هذا الصدد الى وقوع حوادث مماثلة، قبل موعد الانتخابات، سيعزز فرص ترامب في الفوز بصرف النظر عن أهليته وصلاحيته واتزانه لتبوء المنصب.
قرصنة اجهزة اللجنة الوطنية الديموقراطية
رافق اعلان نبأ القرصنة تحديد “الحكومة الروسية” بانها الطرف الذي يقف وراء العمل، دون الحاجة لاثبات وابراز الدلائل وقد استطاع القراصنة الحصول على سجلات وبيانات لجنة الحزب الديموقراطي الخاصة بالمرشح دونالد ترامب، وفق مصادر اللجنة. ووصفت صحيفة واشنطن بوست حجم الضرر بأن القراصنة “نجحوا في اختراق منظومة اللجنة الالكترونية بالكامل واستطاعوا قراءة كافة المراسلات الالكترونية وغيرها.”
واضافت الصحيفة نقلا عن مسؤولين كبارا في اللجنة الوطنية ان “بعض عناصر القراصنة” كان لديهم تصريح بالعمل داخل شبكة اللجنة منذ نحو عام، وجرى طردهم جميعا على الفور بعد الكشف عن القرصنة. واضافت ان المسؤولين اكدوا لها عدم تعرض البيانات والتبرعات المالية او بيانات خاصة للقرصنة، مما يعزز فرضية الاختراق بأنها تتبع اساليب التجسس التقليدية وليست من صنع قراصنة بهدف الربح المالي فحسب.
يشار الى تصريح اطلقه مدير مكتب الأمن القومي، جيمس كلابر، الشهر الماضي يحذر فيه من جهود قراصنة الكترونيين يستهدفون مرشحي الرئاسة لاسباب متعددة من ضمنها عملية تجسس. واضاف ان هذه العمليات قد تتصاعد مع اشتداد وتيرة الحملة الانتخابية.
في الشق المعلوماتي، تصنف مجموعة “كراودسترايك Crowdstrike” الاميركية من ابرز الشركات العاملة في مجال توفير “الأمن المعلوماتي والتهديدات الاستخباراتية.” وحددت الشركة مجموعتين مستقلتين من القراصنة الروس، “كوزي بير و فانسي بير Cozy Bear + Fancy Bear” كابرز واكفأ الخبراء في هذا المجال على الصعيد العالمي.
واوضحت يومية كريستيان ساينس مونيتور، 15 حزيران الجاري، ان كلتاهما دأبتا على جهود الاختراق والتجسس “على القوات العسكرية الغربية واهداف سياسية لعدة سنوات،” شملت ايضا قطاعات الفضاء وشركات الاسلحة والطاقة، بيد ان الاوساط الاميركية لم تدرجهما الا مؤخرا كذراعين للاستخبارات الروسية وقالت مجموعة “كراودسترايك” ان “حرفية المجموعتين رائعة، وعملياتهما على صعيد الأمن لا يضاهيها احد.”
استشعرت اللجنة الوطنية الديموقراطية نشاطات “غير عادية” في نظم شبكاتها الالكترونية اواخر شهر نيسان الماضي؛ وطلبت مساعدة “كراودسترايك” على الفور للحيلولة دون تمادي القراصنة في التجول داخل الشبكات.
يعزو بعض السياسيين اهتمام الاستخبارات الروسية بدونالد ترامب لحداثة دخوله الحلبة السياسية، واستباق الزمن لتعويض ما ينقصها من معلومات. بينما منافسته هيلاري كلينتون فيرجح انها خضعت للدراسة والتقييم منذ عام 1992، على الأقل، وملفاتها معروفة وحديثة لدى الجانب الروسي.
ونقلت يومية واشنطن بوست عن المستشار السابق لمدير السي آي ايه، روبرت ديتز، قوله ان “الهدف من المعلومات الاستخباراتية هو التعرف بدقة على ميول الشخصية” المرصودة. وتشكل استثمارات ترامب الخارجية بعدا هاما لتكوين صورة متكاملة حول طبيعته العملية وكيفية ادارته للعلاقات مع الدول الاجنبية، وربما الحصول على مؤشرات لسبر اغوار اسلوبه التفاوضي.” وعليه، يضيف ديتز، فان توفر معلومات استخباراتية في هذا الشأن قد تستثمره روسيا في تحديد الثغرات التي ستمكنها المضي بمغامراتها الخارجية.”
وشهد منتصف الاسبوع الماضي محاولات لتعكير صفو المياه، اذ تبرع احد الافراد باعلان مسؤوليته عن القرصنة، مستخدما اسماً وهميا، “غوسيفر 2.0 – Guccifer 2.0″ ووفر وثائق تخص بيانات المرشح ترامب، بلغ حجمها 237 صفحة، اهداها لمجموعة الكترونية معروفة “ذي سموكينغ غان The Smoking Gun.” ووصف “غوسيفر” عملية القرصنة في رسالته للمجموعة بانها كانت “ميسرة وسهلة جدا.”
وتضمنت وثائق اللجنة الوطنية المشار اليها “قوائم المتبرعين، مذكرات داخلية خاصة، وتقرير حول ترامب.” وزعم “غوسيفر” انه رابط داخل نظم شبكة اللجنة لاكثر من عام، واعلن مسؤوليته عن “تقديم آلاف الملفات ومراسلات البريد الالكتروني، برامج وخطط انتخابية، مخططات استراتيجية (للحزب الديموقراطي)، خطط اعدت للتصدي للمنافسين، وتقارير وبيانات مالية .. وتوفيرها لمجموعة ويكيليكس.”
مضمون تقرير ترامب، سالف الذكر، المؤرخ يوم 19 كانون الاول / ديسمبر 2015، اتى على معلومات مفصلة وشاملة لاسلوبه المهني وثروته المالية وحياته الخاصة.
وجاء فيها “هناك مسالة واضحة فيما يتعلق بدونالد ترامب، ثمة شخص وحيد يأخذه مصلحته بعين الاعتبار الا وهو شخصه الذاتي. ترامب مخلص لنفسه فقط، ولا يهمه مصير العامل الاميركي، او الحزب الجمهوري، او زوجاته. وعليه لا يجد غضاضة في الكذب على الشعب الاميركي. باستطاعة ترامب التفوه بأي شيء والاقدام على فعل اي شيء في سعيه لتأمين اغراضه دون ادنى اعتبار لاولئك الذين سيلحق بهم الضرر”. ويشير التقرير اعلاه الى استناده لجهد بحثي طويل حول ترامب يعود لعدة سنوات، “انه جهد ضخم .. التنقيب عن آلية عمل شخص لم يتسلم منصبا عاما طيلة حياته،” مما كان سيخضعه لسلسلة تقارير استقصائية وبحث في خلفيته وتاريخه.
جهود القرصنة تضمنت التركيز على اجهزة البريد الالكتروني للجنة الوطنية، وما يعنيه ذلك من امكانية تسريب بعض المراسلات الخاصة لعدد من قيادات الحزب، بمن فيهم المرشحة كلينتون.
في حال حالف الحظ كلينتون وفازت بالانتخابات، فان عددا لا باس به من اصحاب المراسلات الالكترونية سيكون في صدارة قائمة المسؤولين في ادارتها المقبلة. مضمون المراسلات سيلقي الضوء على طبيعة تفكير وتوجه المسؤولين القادمين، وربما الكشف عن نقاط الضعف الشخصية لديهم والتي باستطاعة الاجهزة الاستخباراتية، الروسية وغيرها، استغلالها الى ابعد حد للظفر بمكانة اقوى عند الرئيس هيلاري كلينتون.