الإستقرار الحَرِج بقلم اللواء عباس ابراهيم
المفارقات اللبنانية تتكرر في غرابتها. في الخامس والعشرين من ايار الماضي عاش اللبنانيون يوما انطوى على متعارضتين: الاولى فرحة، والاخرى غصة وقلق. بينهما في البال وعد بلفور المشؤوم والحديث عن لعبة امم قد تطيح جغرافيا سايكس ـ بيكو. الفرحة كانت الاحتفال بالذكرى الـ16 لعيد المقاومة والتحرير الذي ازاح الكابوس الصهيوني عن لبنان واللبنانيين بعد معاناة استمرت منذ قيام الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة عام 1948 ومجزرة سهل حولا. اما الغصة فكانت دخول الفراغ الرئاسي عامه الثالث. لكن يبقى ان الامرين يضعان لبنان في حال اللاإستقرار الحرج .
في ما خص عيد المقاومة والتحرير، يسع اللبنانيين ان يفاخروا بأنهم الشعب الابي في الدفاع عن حقه، وحماية وطنه بكل مكوناته الثقافية والسياسية التي شكلت بتقاطعها عند وثيقة الوفاق الوطني حاضنة ورافعة للمقاومة في مسيرتها التي شهدت محطات عدة، قاسية ورهيبة في ويلاتها، لتُكلل في ايار 2000 انتصارا استثنائيا على عدو طالما زعم انه “لا يقهر”، وليتبين انه انموذج مثير للسخرية في التقهقر. كلنا يذكر ان الحزبين الرئيسيين في الكيان الاسرائيلي كانا يتسابقان في خوض الانتخابات على مَن ينسحب اولا من “اللعنة اللبنانية”، ليسقط الاثنان مع اول تظاهرة شعبية دخلت بلدة الغندورية وتتحرر بعدها كل القرى وصولا الى الشريط الازرق.
في المبدأ، كان يفترض ان يفضي انتصار كهذا، بالمعنى الوطني العام، الى عودة الوطن المتحرر من التعصب والعنصرية والطائفية، ولتنتصر فيه مقولة “الرأي قبل شجاعة الشجعان”، اي الرأي الحر من خلال تفعيل المؤسسات الدستورية ومن خلال ديموقراطية مثلى تضمن التمثيل الصحيح لكل المكونات اهلية وروحية وفكرية وثقافية، حتى ولو كان بعضها يتناقض مع البنية التقليدية لسيرة قيام لبنان، وهي للمناسبة سير عدة ومتنافرة احيانا. لكن ما حصل كان العكس من ذلك تماما. اذ انتهينا الى كمية ونوعية من التناقضات صارت عصية على الحل، حينا بسببب تحجر غير مقبول، واحيانا جراء عمل خارج ما على ابقاء لبنان ساحة، او حقل تجارب للافكار التي يمكن اسقاطها على المنطقة.
المفارقة الاكثر حدة ونفورا تتجلى في انه بعد كل محطة مفصلية وجوهرية في تاريخ لبنان الحديث، ينتقل لبنان واللبنانيون على خط حلزوني من الازمات يمنع تحول الوطن الى دولة وجمهورية بكل ما للكلمة من معنى. فلا جيل الاستقلال ولا جيل الشهابية، ومن بعدهما تيارا اليمين واليسار، نجحوا في بناء الدولة المنشودة، وبقي اللبنانيون يتأرجحون بين الخيبات والمرارات. السبب الاساسي في بقاء لبنان في المربع الموقوف، اي لا هو بلد ولا هو دولة ، كان في المصطلح الهجين والدخيل على علم السياسة ألا وهو المحاصصة الشخصية والمذهبية والمناطقية، فتحول الكيان نهبا يتناتشه المتنازعون.
لقد اعترى النظام السياسي اللبناني الكثير من الامراض والمشاكل التي كانت سبببا لعطبه بدءا من الطائفية، ثم المذهبية، فالدويلات. هكذا نمضي من مطب الى حفرة، من دون ان نتلمس جادة الصواب السياسي للشروع في بناء الدولة التي ينشدها وينتظرها جميع اللبنانييين من دون استثناء. وايضا يبقى الوطن اسير منازعات اقليمية ودولية تشتد اوزارها شيئا فشيئا.
يقف البلد الآن على قارعة طريق دولية تجعل استقرارنا الراهن حرجا، بكل ما يعني الحرج من معنى سياسي وامني واقتصادي. فالحريق في منطقة الشرق الاوسط يطرح مروحة احتمالات اقلها انهيار دول بتاريخها وحضارتها، مع ما في ذلك من تغيير في الديموغرافيا على تنوع مسمياتها.
ما يزيد الامور تعقيدا هو التكيف مع الفراغ الرئاسي الذي ولجنا عامه الثالث مع ما خلفه من شلل عمّ على سائر المؤسسات من دون استثناء، فصارت التشريعات معلقة، والحكومة باتت موسومة بالشلل شأنها شأن كل شيء. كل هذا ومنسوب الخطر يرتفع من كل الجهات. عند الحدود مع سوريا يتكبد الجيش والمؤسسات الامنية جهودا استثنائية لتحطيم امواج الارهاب وصون الوحدة الوطنية وحماية لبنان الرسالة من العقول البربرية والهمجية. واسرائيل تتحضر دائما لما تسميه وترجحه عن “حرب ثالثة” على لبنان وذلك على وقع تحالف يميني ـ قومي وعنصري بين نتنياهو وليبرمان ليسقط كل الكلام الذي ساد سابقا عن عملية سياسية تساعد على بناء السلطة الوطنية الفلسطينية.
هكذا، فان غياب رئيس للجمهورية يعني ان لبنان في مهب الريح، والدستور يُنتهَك ويُستبدَل بحد ادنى من التوافق ما بين الافرقاء السياسيين للمحافظة على سير عمل الحكومة. كما يجري استبدال الحياة السياسية عبر المؤسسات الديموقراطية ما بين القوى المختلفة او المتباينة بحوارات ثنائية. لكن من المهم التنبه الى ان كل شيء اعرج ويولد جمودا مؤسساتيا مملا. يحصل ذلك بينما تداعيات الصراع السوري تزيد المخاطر الاقتصادية والامنية على لبنان، ما لا يبشر بالخير ابدا. لا بل ينذر بسيء قد يصيب الطبيعة الديموقراطية للنظام السياسي اللبناني.
الوضع الحالي غير مريح على الاطلاق، والمقبل من الايام تغلب عليه صفة الحرج كحد ادنى والخطر كحد اقصى. لم يعد يمكن اللبنانيين ان يستمروا في المزاوجة ما بين مفارقاتهم وتناقضاتهم. لا الوضع الاقتصادي مريح، ولا حل فعلي للازمات المتراكمة في الادارة والبيئة. المطلوب الآن انتخاب رئيس للجمهورية وتفعيل عمل مجلس النواب لاقرار قانون انتخاب عادل يعكس صحة التمثيل لتحصين الدولة ووحدتها من كل الحروب والمخططات التي تحاك، كي لا يكون لبنان واللبنانيون ضحايا مناكفات الدول الكبرى.
انتخاب رئيس للجمهورية مسؤولية اللبنانيين اولا، من دون المبالغة في اقصاء المؤثرات الدولية والاقليمية كون البعض يقدم الخارج على الداخل.
– افتتاحية مجلة الأمن العام حزيران 2016